ولد في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة ، وشهد عند أبيه أبي عبد الله في سنة ست وستين ، وفوض إليه القضاء بباب الطاق ، وما كان إلى جده أبي أمه القاضي أبي الحسن بن أبي جعفر السمناني من القضاء ، وكان يوم تقلد القضاء وعدل ابن ست عشرة سنة ، ولم يسمع أن قاضيا تولى أصغر من هذا ، وولي القضاء لأربعة خلفاء: القائم إلى أن مات أبوه ، ثم ولي والمقتدي فعزل نفسه ، وبعث إليه الشافعي الشامي يقول له:
أنت على عدالتك وقضائك ، فنفذ إليه يقول: أما الشهادة فإنها استشهدت ، وأما القضاء فقضي عليه ، وانقطع عن الولاية ، واشتغل بالعلم ، فقلده قضاء القضاة في سنة ثمان وثمانين وكان عليه اسم قاضي القضاة وهو معزول في المعنى بالسيبي والهروي ، ولم يكن إليه إلا سماع البينة في الجانب الغربي ، لكنه كان يتطرى جاهه بالأعاجم ومخاطبتهم في معناه ، ثم ولي المستظهر فأقره على قضاء القضاة ولا يعرف بأن قاضيا تولى لأربعة خلفاء غيره ، وغير المسترشد شريح إلا أبا طاهر محمد بن أحمد بن الكرخي ، قد رأيناه ولي القضاء لخمسة خلفاء ، وإن كان مستنابا: المستظهر ، ، والمسترشد والراشد ، والمقتفي ، والمستنجد . [وناب] أبو الحسن الدامغاني عن الوزارة في الأيام المستظهرية والمسترشدية بمشاركة غيره معه ، وتفرد بأخذ البيعة وللمسترشد ، وكان فقيها متدينا ذا مروءة وصدقات وعفاف ، وكان له بصر جيد بالشروط والسجلات ، وسمع الحديث من القاضي أبي يعلى بن الفراء ، وأبي بكر الخطيب ، والصريفيني وابن النقور ، وحدث . [ ص: 176 ]
وكان قد تقدم إليه بسماع قول بعض الناس فلم يره أهلا لذلك ، فلم يسمع قوله وحدثني المستظهر أبو البركات بن الجلاء الأمين ، قال: حضر أبو الحسن الدامغاني وجماعة أهل الموكب باب الحجرة ، فخرج الخادم فقال: انصرفوا إلا قاضي القضاة ، فلما انصرفوا قال له الخادم: إن أمير المؤمنين يحب يسمع كلامك ، يقول لك:
أنحن نحكمك أم أنت تحكمنا؟ قال: فقال: كيف يقال لي هذا وأنا بحكم أمير المؤمنين؟ فقال: أليس يتقدم إليك بقبول قول شخص فلا تفعل؟ قال: فبكى ثم قال [لأمير المؤمنين ] : يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة جيء بديوان ديوان فسئلت عنه ، فإذا جيء بديوان القضاء كفاك أن تقول وليته لذاك المدبر فتسلم أنت وأقع أنا ، قال: فبكى الخليفة ، وقال: افعل ما تريد . ابن الدامغاني
وقد روى رفيقنا قال: سمعت أبو سعد السمعاني ، أبا الحسن علي بن أحمد الأزدي يقول: دخل أبو بكر الشاشي على قاضي القضاة زائرا له فما قام قاضي القضاة ، فرجع الدامغاني الشاشي وما قعد ، وكان ذلك في سنة نيف وثمانين ، فما اجتمعا إلا بعد سنة خمسمائة في عزاء لابن الفقيه ، فسبق الشاشي فجلس ، فلما دخل قام الكل إلا الدامغاني الشاشي فإنه ما تزحزح ، فكتب قاضي القضاة إلى يشكو من المستظهر الشاشي أنه ما احترم حرمة نائب الشرع ، فكتب ماذا أقول له ، أكبر منك سنا وأفضل منك وأورع منك ، لو قمت له كان يقوم لك ، وكتب المستظهر: الشاشي إلى يقول: فعل في حقي وصنع ووضع مرتبة العلم والشيوخة ، وكتب في أثناء القصة: المستظهر ،
حجاب وإعجاب وفرط تصلف ومد يد نحو العلا بتكلف فلو كان هذا من وراء كفاية
لهان ولكن من وراء تخلف
قال المصنف رحمه الله: وكان أبو الحسن ابن الدامغاني قصر أيضا في حق فكتب أبي الوفاء ابن عقيل ، ابن عقيل إليه ما قرأته بخطه: "مكاتبة سنح بها الخاطر لتوصل إلى أبي الحسن الدامغاني قاضي القضاة يتضمن تنبيها له على خلال قد سولت له نفسه استعمالها ، فهدت من مجد منصبه ما لا يتلافاه على طول الوقت في مستقبل عمره ، لما خمره في نفوس العقلاء من ضعف رأيه وسوء خلقه الذي لم يوفق لعلاجه ، وكان مستعملا نعمة الله تعالى في مداواة نقائصه . ومن عذيري ممن نشأ في ظل والد مشفق عليه قد حلب الدهر شطريه وأتلف في طلب العلم أطيبيه ، أجمع أهل عصره على كمال عقله كما اجتمع العلماء على غزارة علمه ، اتفق تقدمه في نصبه القضاء بالدولة التركمانية والتركية المعظمة لمذهبه ، وفي عصره من هو أفضل منه بفنون من الفضل ، كأبي الطيب الطبري ، وأخلق بالرياسة كالماوردي ، وأبي إسحاق الفيروزآبادي ، وابن الصباغ ، فقدمه الزمان على أمثاله ، ومن يربي عليه في الفضل والأصل فكان أشكر الناس لنعمة الله ، فاصطنع من دونه من العلماء ، وأكرم من فوقه من الفقهاء حتى أراه الله في نفسه فوق ما تمناه من ربه ، وغشاه من السعادة ما لم يخطر بباله ، حيث رأى نظير أستاذه أبا الطيب الطبري الصيمري بين يديه شاهدا ، وله في مواكب الديوان مانعا ، وتعجرف عليه أبو محمد التميمي فكان يتلافاه بجهده ، ويأبى إلا إكرامه ويغشاه في تهنئة أو تعزية ، حتى عرض عليه القائم الوزارة فأبى تعديه رتبة القضاء ، فلما ولي ولده سلك طريقة عجيبة خرج بها عن سمت أبيه ، فقدم أولاد السوقة ، وحرم أولاد العلماء حقوقهم ، وقبل شهادة أرباب المهن ، وانتصب قائما للفساق الذين شهد بفسقهم لباسهم الحرير والذهب ، ومنع أن يحكم إلا برأي أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ، وصاح في مجلسه بأعلى صوته أنه لم يبق في الأرض مجتهد ، وهو لا يعلم ما تحت هذا الكلام من [ ص: 178 ] الفساد ، وهو إخراج عن الإجماع الذي هو آكد أدلة الشرع ، وليس لنا دليل معصوم سواه ، جعله الله في هذه الشريعة خلف النبوة حيث كان نبيها خاتم الأنبياء لا يخلفه نبي ، فجعل اجتماع أمته بدلا من نبوة بعد نبوة ، وقد علم أن المقدم عليه نقيب النقباء تقدم مميز ، وترك النظر صفحا ، وتعاطى أن لا يخاطب أحدا بما يقتضيه حاله من شيوخه أو علم أو نسب الآباء فعاد ممقوتا إلى القلوب ، وأهمله من لا حاجة إليه له ، أصلحه الله لنفسه فما أغنانا عنه" .
وكتب ابن عقيل يوبخه أيضا على تقصير في حقه "من عذيري ممن خص بولاية الأحكام وقضاء القضاة والحكم في جميع بلاد الإسلام ، فكان أحق الناس بالإنصاف ، والإنصاف لا يختص بأحكام الشرع بل حقوق الناس التي توجبها قوانين السياسة وآداب الرئاسة مما يقتضي إعطاء كل ذي حق حقه ، ويجب أن يكون هو المعيار لمقادير الناس لا سيما أهل العلم الذي هو صاحب منصبهم ، ونراه على استمرار عادته يعظم الأعاجم الواردين من الخراسانية تعظيما باللفظ وبالنهوض لهم ، وينفخ فيهم بالمدح حال حضورهم ثقة بالسماع ، والحكاية عنهم ، وبطل الثناء بعد خروجهم فيحشمهم ذلك في نفوس من لا يعرفهم ، ويتقاعد عند علماء بلده ومشيخة دار السلام الذين قد انكشفت له علومهم على طول الزمان ، ويقصر بأولاد الموتى منهم مع معرفته بمقادير أسلافهم والناس يتلمحون أفعاله ، وأكثر من يخصهم بالتعظيم لا يتعدون هذه المسائل الطبوليات ، ليس عندهم من الروايات والفروعيات خبر ، مفلوسون من أصول الفقه والدين ، لا يعتمدون إلا على الألقاب الفارغة ، وإذا لم يسلك إعطاء كل ذي حق حقه لم يطعن ذلك في المحروم بل في الحارم ، أما من جهة قصور العلم بالموازنة ، أو من طريق اعتماد الحرمان لأرباب الحقوق ، وذاك البخس البحت ، والظلم الصرف ، وذلك يعرض بأسباب التهمة في التعديل فيما سوى هذا القبيل ، ولا وجه لقول متمكن من منصبه: لا أبالي ، فقد بالى من هو أكبر منصبا ، فقال عليه السلام: محمدا نقض الكعبة لأعدتها إلى قواعد إبراهيم" فتوقى أن يقول الذين قتلهم وكسر أصنامهم ، وهذا عمر يقول: "لولا أن يقال أن عمر زاد في كتاب الله لكتبت آية الرجم في حاشية المصحف" . ومن فقهه قال: في حاشية المصحف ، لأن وضع الآي كأصل الآي ، لا [ ص: 179 ] يجوز لأحد أن يضع آية في سورة من غير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي ضعوها على رأس كذا ، فأنبأ بقوله في حاشية المصحف على هذا الفقه الدقيق . "لولا أن يقال أن
فإن قال: لا أبالي بمن قال من علماء العراق كان العتب متضاعفا ، فيقال: قد أظهر من أعظامك الغرباء زيادة على محلهم ومقدارهم طلبا لانتشار اسمك بالمدحة ، وعلماء العراق هم بالقدح أقوم ، كما أنهم بأسباب المدح أعلم ، فاطلب السلامة تسلم ، والسلام" .
توفي أبو الحسن الدامغاني ليلة الأحد رابع عشر محرم عن ثلاث وستين سنة وستة أشهر ، ولي منها قضاء القضاة عشرين سنة وخمسة أشهر وأياما ، وصلي عليه وراء مقبرة الشونيزية ، تقدم في الصلاة عليه ابنه أبو عبد الله محمد ، وحضر النقيبان والأكابر ، ودفن في داره بنهر القلائين في الموضع الذي دفن فيه أبوه ، ثم نقل أبوه إلى مشهد أبي حنيفة .