وفي هذه السنة: وقعت أمطار عظيمة ، ودامت واتصلت بجميع العراق ، وأهلكت ما على رءوس النخل وفي الشجر من الأرطاب والأعناب والفواكه ، وما كان في الصحاري من الغلات ، فلما كان انتصاف الليل من ليلة السبت وهي ليلة الحادي والعشرين من كانون الثاني سقط الثلج ببغداد ودام سقوطه إلى وقت الظهر من الغد فامتلأت به الشوارع والدروب ، وقام نحو ذراع وعمل منه الأحداث صور السباع [ ص: 197 ] والفيلة ، وعم سقوطه من بين تكريت إلى البطيحة ، ونزل على الحاج بالكوفة .
وقد ذكرنا في كتابنا هذا أن الثلج وقع في سنين كثيرة في أيام الرشيد والمقتدر والمعتمد والطائع والمطيع والقادر والقائم ، وما سمع بمثل هذا الواقع في هذه السنة ، فإنه بقي خمسة عشر يوما ما ذاب ، وهلك شجر الأترج والنارنج والليمون ، ولم تهلك البقول والخضر ، ولم يعهد سقوط الثلج بالبصرة إلا في هذه السنة .
أنبأنا أبو عبد الله ابن الحراني ، قال: لما نزل الوفر ببغداد في سنة خمس عشرة ، قال بعض شعراء الوقت:
يا صدور الزمان ليس بوفر ما رأيناه في نواحي العراق إنما عم ظلمكم سائر الخلق
فشابت ذوائب الآفاق
وأما سيف الدولة فإنه كاتب الخليفة كتبا يستميل بها قلبه ، ويذكر طاعته ، فروسل في جواب كتابه بمكتوب يسلك معه فيه الملاطفة ، فدخل الحلة وأخرج أهلها فازدحموا على المعابر ، فغرق منهم نحو خمسمائة ، ودخل أخوه النيل ، وأخرج شحنة السلطان منها ، وكان السلطان ببغداد فحثه الخليفة على دبيس ، فندب السلطان الأمراء لقصد دبيس فلما قصدوه أحرق من دار أبيه ، وخرج من الحلة إلى النيل ، فأخذ منها من الميرة ، ودخل الأزير وهو نهر سنداد الذي يقول فيه الأسود بن يعفر .
والقصر ذي الشرفات من سنداد [ ص: 198 ] فلما وصل العسكر الحلة وجدوها فارغة فقصدوا الأزير ، فحاصره فراسله برنقش أن يحذر مخالفة السلطان وينفذ أخاه منصورا إلى الخدمة ، فأجاب وخرج دبيس وعسكره ووقف بإزاء عسكر برنقش فتحالفا وتعاهدا في حق منصور ونفذ به إليه ، وعاد العسكر إلى بغداد ومعهم منصور ، فحمله برنقش إلى خدمة السلطان ، فأكرمه وبعثه مع برنقش إلى خدمة الخليفة .
ودخلت العرب من نبهان فيد فكسروا أبوابها وأخذوا ما كان لأهلها ، فتوجع الناس لهم وعلموا أن خراب حصنهم سبب لانقطاع منفعة الناس من الحجيج ، فعمل موفق [الخادم] الخاتوني لهم أبوابا من حديد وحملها على اثني عشر جملا وأنفذ الصناع لتنقية العين والمصنع ، وكانت العرب طموهما واغترم على ذلك مالا كثيرا ، وتولى ذلك نقيب مشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام ، وأعيدت المكوس والمواصير . وألزم الباعة أن يرفعوا إلى السلطان ثلثي ما يأخذونه من الدلالة في كل ما يباع ، وفرض على كل نول من السقلاطون ثمانية أقساط وحبة ، ثم قيل للباعة: زنوا خمسة آلاف شكرا للسلطان فقد تقدم بإزالة المكس .
محمود فعاده السلطان وهنأه بالعافية فعمل له وليمة بلغت خمسين ألف دينار وكان فيها الأغاني والملاهي . ومرض وزير السلطان
وفي رجب: أخذ القاضي شواء من الأعاجم فشهره فمضى وشكا إلى العجم ، فأقبل العجم في خمسة غلمان أبو عبد الله ابن الرطبي أتراك فأخذوه وسحبوه إلى دار السلطان ، وجرت فتنة ، وغلقت أبواب الحديد ، ورجمهم العامة فعادوا على العامة بالدبابيس ، فانهزموا وحملوه ، فلما شرح الحال لوزير السلطان أعيد مكرما ، وطولب أهل الذمة بلبس الغيار ، فانتهى الأمر إلى أن سلموا إلى الخليفة أربعة آلاف ، وإلى السلطان عشرين ألف دينار ، وأحضر الجالوت فضمنها وجمعها . [ ص: 199 ]