قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة . وقرأ حميد بن قيس " نصليهم " بفتح النون أي نشويهم . يقال : شاة مصلية . ونصب ( نارا ) على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار .
كلما نضجت جلودهم يقال : نضج الشيء نضجا ونضجا ، وفلان نضيج الرأي محكمه . والمعنى في الآية : تبدل الجلود جلودا أخر . فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة : كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ؟ قيل له : ليس الجلد بمعذب ولا معاقب ، وإنما الألم واقع على النفوس ؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس . يدل عليه قوله تعالى : ليذوقوا العذاب وقوله تعالى : كلما خبت زدناهم سعيرا . فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح . ولو أراد الجلود لقال : ليذقن العذاب . مقاتل : تأكله النار كل يوم سبع مرات . الحسن : سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم : عودوا فعادوا كما كانوا . ابن عمر : إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس . وقيل : عنى بالجلود السرابيل ؛ كما قال تعالى : وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة ؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان : هو جلدة ما بين عينيه . وأنشد ابن عمر رضي الله عنه :
يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم
كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر
[ ص: 220 ] فكنى عن الجلود بالسرابيل . وقيل : المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا ؛ كما تقول للصائغ : صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره ؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما . فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة . وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى . وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له : كيف أنت ؟ فيقول : أنا غير الذي عهدت . فهو هو ، ولكن حاله تغيرت . فقول القائل : أنا غير الذي عهدت ، وقوله تعالى : ( غيرها ) مجاز . ونظيره قوله تعالى : يوم تبدل الأرض غير الأرض وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها ، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها ؛ على ما يأتي بيانه في سورة " إبراهيم " عليه السلام . ومن هذا المعنى قول الشاعر :
فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف وقال الشعبي : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة . ذمت دهرها ، وأنشدت بيتي لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتلذذون مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب فقالت : رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ! فقال ابن عباس : لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت " عاد " دهرها ؛ لأنه وجد في خزانة " عاد " بعدما هلكوا بزمن طويل سهم كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب : بلاد بها كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت . إن الله كان عزيزا أي لا يعجزه شيء ولا يفوته . حكيما في إيعاده عباده . وقوله في صفة أهل الجنة وندخلهم ظلا ظليلا يعني كثيفا لا شمس فيه . الحسن : وصف بأنه ظليل ؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك . وقال الضحاك : يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي : ظلا ظليلا يعني دائما .