فيه ثلاث عشرة مسألة :
الأولى : لا تحلوا شعائر الله خطاب للمؤمنين حقا ; أي : لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور ، والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة ، وقال قوله تعالى : : ويقال للواحدة شعارة ; وهو أحسن ، والشعيرة البدنة تهدى ، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم [ ص: 10 ] فيعلم أنها هدي . والإشعار الإعلام من طريق الإحساس ; يقال : أشعر هديه أي : جعل له علامة ليعرف أنه هدي ; ومنه المشاعر المعالم ، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات ، ومنه الشعر ، لأنه يكون بحيث يقع الشعور ; ومنه الشاعر ; لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ; ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه ; فالشعائر على قول : ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله ، وعلى قول : جميع مناسك الحج ; قال ابن فارس ابن عباس . وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر ، وقال الشاعر :
نقتلهم جيلا فجيلا تراهم شعائر قربان بها يتقرب
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ; فأنزل الله تعالى : لا تحلوا شعائر الله . وقال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه ، وقال الحسن : دين الله كله ; كقوله : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي : دين الله .قلت : وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه . وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي ، وهي :
الثانية : فأجازه الجمهور ; ثم اختلفوا في أي جهة يشعر ; فقال الشافعي وأحمد : يكون في الجانب الأيمن ; وروي عن وأبو ثور ابن عمر ، وثبت عن ابن عباس ; أخرجه أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن مسلم وغيره وهو الصحيح ، وروي أنه أشعر بدنة من الجانب الأيسر ; قال أبو عمر بن عبد البر : هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس ; والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس ، قال : ولا يصح عنه غيره . وصفحة السنام جانبه ، والسنام أعلى الظهر ، وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر ; وهو قول مالك ، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن ، وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء ; وبه قال أحمد في أحد قوليه ، ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان ، والحديث يرد عليه ; وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم ; وقد أوغل على ابن العربي أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء .
قلت : والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية : الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة ، [ ص: 11 ] وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح ; لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد ، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما ، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا ، أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا ، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر ; هكذا روي عن ولأبي حنيفة ابن عباس ، وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال : يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية ، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن ; وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي . فهذا اعتذار علماء الحنفية عن الحديث الذي ورد في الإشعار ، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه ; قالوا : وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما ; لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك . لأبي حنيفة
الثالثة : قوله تعالى : ولا الشهر الحرام اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد ، يأتي بيانها في " براءة " ; والمعنى : لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها ; فإن استبدالها استحلال ، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء ; وكذلك قوله : ولا الهدي ولا القلائد أي : لا تستحلوه ، وهو على حذف مضاف أي : ولا ذوات القلائد جمع قلادة . فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد .
الرابعة : قوله تعالى : ولا الهدي ولا القلائد الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة ; الواحدة هدية وهدية وهدي . فمن قال : أراد بالشعائر المناسك قال : ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها ، ومن قال : الشعائر الهدي قال : إن ، والهدي ما لم يشعر ، اكتفي فيه بالتقليد ، وقيل : الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام ، والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى ، وقال الجمهور : الهدي عام في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ; ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : الشعائر ما كان مشعرا أي : معلما بإسالة الدم من سنامه فسماها هديا ; وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة ; وكذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به ; إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر [ ص: 12 ] والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى : المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة إلى أن قال : كالمهدي بيضة فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي وأراد به الشاة ; وقال تعالى : يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال تعالى : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وأقله شاة عند الفقهاء ، وقال مالك : إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي . والقلائد ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ; فهو على حذف مضاف ، أي : ولا أصحاب القلائد ثم نسخ .
قال ابن عباس : آيتان نسختا من " المائدة " آية القلائد وقوله : فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا ، وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى : وأن احكم بينهم بما أنزل الله على ما يأتي . وقيل : أراد بالقلائد نفس القلائد ; فهو نهي عن أخذ لحاء شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن ; قاله مجاهد وعطاء ، والله أعلم ، وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض . واتفق الفقهاء على أن ومطرف بن الشخير أنه يبعث بثمنه إلى من قال : لله علي هدي مكة . وأما فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه ; من نعل أو غيره ، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام ، وهي سنة البقر والغنم . قالت القلائد عائشة رضي الله عنها : ; أخرجه أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها البخاري ومسلم ; وإلى هذا صار جماعة من العلماء : الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب ; وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في ، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد تقليد الغنم الأسود به عن عائشة رضي الله عنها ; فالقول به أولى ، والله أعلم . وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن ; قال ابن عمر ; وبه قال مالك ، وقال : تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا ، وقال الشافعي سعيد بن جبير : تقلد ولا تشعر ; وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام ، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل ، والله أعلم .
الخامسة : واتفقوا فيمن وساقها أنه يصير محرما ; قال الله تعالى : قلد بدنة على نية الإحرام لا تحلوا شعائر الله إلى أن قال : فاصطادوا ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام .
السادسة : فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما ; لحديث عائشة قالت : ( أنا [ ص: 13 ] فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ; ثم قلدها بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي ) ; أخرجه ، وهذا مذهب البخاري مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء . وروي عن ابن عباس أنه قال : يصير محرما ; قال ابن عباس : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي ; رواه ; وهذا مذهب البخاري ابن عمر وعطاء ومجاهد ، وحكاه وسعيد بن جبير عن أصحاب الرأي ; واحتجوا بحديث الخطابي قال : جابر بن عبد الله بالمدينة . في إسناده كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ، وكان بعث ببدنه وأقام عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة وهو ضعيف . فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون : لا يصير محرما ; لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر ; لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن ; فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم وفي صحيح عن البخاري عائشة أم المؤمنين قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي . العهن الصوف المصبوغ ; ومنه قوله تعالى : وتكون الجبال كالعهن المنفوش
السابعة : ولا يجوز ولا هبته إذا قلد أو أشعر ; لأنه قد وجب ، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه ; بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند بيع الهدي مالك إلا أن يوجبها بالقول ; فإن أوجبها بالقول قبل الذبح تعينت ; وعليه ; إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها ; فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول فقال : جعلت هذه الشاة أضحية أحمد وإسحاق ، وقال : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب ، وروي عن الشافعي ابن عباس أنه قال : إذا ضلت فقد أجزأت ، ومن كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي ، وقال مات يوم النحر قبل أن يضحي أحمد : تذبح بكل حال ، وقال وأبو ثور الأوزاعي : تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه ، ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته ، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها ، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث ، كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي ، هذا تحصيل مذهب وما أصاب الأضحية قبل [ ص: 14 ] الذبح من العيوب مالك ، وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل ; والأول أصوب . والله أعلم .
الثامنة : قوله تعالى : ولا آمين البيت الحرام يعني القاصدين له ; من قولهم أممت كذا أي : قصدته ، وقرأ الأعمش : " ولا آمي البيت الحرام " بالإضافة كقوله : " غير محلي الصيد " والمعنى : لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة ; وعليه فقيل : ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك ، أو مراعاة حرمة له بقلادة ، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وقوله : فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا فلا يمكن المشرك من الحج ، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج ; روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره ، وقال قوم : الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين ، وقد ، والنهي عام في الشهر الحرام وغيره ; ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا ; وهذا يتمشى على قول نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين عطاء ; فإن المعنى لا تحلوا معالم الله ، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه ; ولذلك قال أبو ميسرة : هي محكمة ، وقال مجاهد : لم ينسخ منها إلا القلائد وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم فلا يقرب فنسخ ذلك . وقال : هذه الآية نهي عن ابن جريج الحجاج أن تقطع سبلهم ، وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ; جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ; فنزل القرآن ولا آمين البيت الحرام . وقيل : كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ هذا الحكم كما ذكرنا ، وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس ؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده فقال [ ص: 15 ] عليه الصلاة والسلام : لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم . فمر بسرح المدينة فاستاقه ; فطلبوه فعجزوا عنه ، فانطلق وهو يقول :
قد لفها الليل بسواق حطم ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم باتوا نياما وابن هند لم ينم
بات يقاسها غلام كالزلم خدلج الساقين خفاق القدم
التاسعة : وعلى أن الآية محكمة ، قوله تعالى : لا تحلوا شعائر الله يوجب إتمام أمور المناسك ; ولهذا قال العلماء : إن الرجل إذا فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه ; ثم عليه القضاء في السنة الثانية . قال دخل في الحج ثم أفسده أبو الليث السمرقندي : وقوله تعالى : ولا الشهر الحرام منسوخ بقوله : وقاتلوا المشركين كافة وقوله : ولا الهدي ولا القلائد محكم لم ينسخ ; فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ; فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض ; بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .
العاشرة : يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا قال فيه جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم ، وقيل : كان منهم من يبتغي التجارة ، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله ; وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت ، وأنه يبعث ، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار . قال قوله تعالى : ابن عطية : هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم ; لتنبسط النفوس ، [ ص: 16 ] وتتداخل الناس ، ويردون الموسم فيستمعون القرآن ، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان ، وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع ; إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة " براءة " .
الحادية عشرة : وإذا حللتم فاصطادوا أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام ; حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح ، بل قوله تعالى : على أصلها من الوجوب ; وهو مذهب صيغة " أفعل " الواردة بعد الحظر وغيره ; لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا ; دليله قوله تعالى : القاضي أبي الطيب فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين فهذه " أفعل " على الوجوب ; لأن المراد بها الجهاد ، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا فإذا تطهرن فأتوهن من النظر إلى المعنى والإجماع ، لا من صيغة الأمر . والله أعلم .
الثانية عشرة : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد أي : لا يحملنكم ; عن قوله تعالى : ابن عباس وقتادة ، وهو قول الكسائي وأبي العباس ، وهو يتعدى إلى مفعولين ; يقال : جرمني كذا على بغضك أي : حملني عليه ; قال الشاعر :
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
جريمة ناهض في رأس نيق ترى لعظام ما جمعت صليبا
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
وقال آخر :يا أيها المشتكي عكلا وما جرمت إلى القبائل من قتل وإبآس
الثالثة عشرة : وتعاونوا على البر والتقوى قال قوله تعالى : الأخفش : هو مقطوع من أول الكلام ، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ; أي : ليعن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ; وهذا موافق لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ، وقد قيل : الدال على الشر كصانعه . ثم قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر . قال الدال على الخير كفاعله ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز . وقال : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ; لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البر رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته ، وقال الماوردي ابن خويز منداد في أحكامه : يكون بوجوه ; فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة والتعاون على البر والتقوى ، ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه . ثم نهى فقال : المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وهو الحكم اللاحق عن الجرائم ، وعن العدوان وهو ظلم الناس . ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال : واتقوا الله إن الله شديد العقاب