قوله تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فيه مسألتان ، الأولى : قوله تعالى : وأقسموا أي حلفوا . وجهد اليمين أشدها ، وهو بالله . فقوله : جهد أيمانهم أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم ، وانتهت إليها قدرتهم . وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم ، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله [ ص: 57 ] زلفى ; كما أخبر عنهم بقوله تعالى : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى . وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك ، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله .
" جهد " منصوب على المصدر والعامل فيه " أقسموا " على مذهب ; لأنه في معناه . والجهد " بفتح الجيم " : المشقة يقال : فعلت ذلك بجهد . والجهد " بضمها " : الطاقة يقال : هذا جهدي ، أي طاقتي . ومنهم من يجعلهما واحدا ، ويحتج بقوله سيبويه والذين لا يجدون إلا جهدهم . وقرئ " جهدهم " بالفتح ; عن . وسبب الآية فيما ذكر المفسرون : ابن قتيبة القرظي والكلبي وغيرهما ، قريشا قالت : يا محمد ، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وأن عيسى كان يحيي الموتى ، وأن ثمود كانت لهم ناقة ; فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك . فقال : أي شيء تحبون ؟ قالوا : اجعل لنا الصفا ذهبا ; فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون . فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو ; فجاءه جبريل عليه السلام فقال : إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يتوب تائبهم فنزلت هذه الآية . وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يؤمن وإن أقسم ليؤمنن . أن
الثانية : قوله تعالى جهد أيمانهم قيل : معناه بأغلظ الأيمان عندهم . وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى ، وهي قول الرجل : الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا . قال : وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة ، كانوا يقولون : علي أشد ما أخذه أحد على أحد ; فقال ابن العربي مالك : تطلق نساؤه . ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها . وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول : يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها ; لأن قوله " الأيمان " جمع يمين ، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة . ولو قال : علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث . والأيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات . قلت : وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه : اختلف شيوخ القيروان فيها ; فقال أبو [ ص: 58 ] محمد بن أبي زيد ; يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات ، والمشي إلى مكة ، وتفريق ثلث ماله ، وكفارة يمين ، وعتق رقبة . قال ابن مغيث : وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة . وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبد الرحمن القروي : تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية . ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله : " وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه في ذلك كفارة يمين " . قال ابن مغيث : فجعل من سميناه على القائل : " الأيمان تلزمه " طلقة واحدة ; لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله : أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين ، قال وبه نقول . قال : واحتج الأولون بقول ابن القاسم في من قال : علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله ; فقال : إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات . فإن لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله : علي عهد الله وغليظ ميثاقه . ويعتق رقبة وتطلق نساؤه ، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ماله في قوله : وأشد ما أخذه على أحد . قال : أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الأيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد ; فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك بالله فيكون ما قاله ابن العربي الفهري . فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده ، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد ; فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ماله ; إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا . والله أعلم .
قل إنما الآيات عند الله أي قل يا قوله تعالى محمد : الله القادر على الإتيان بها ، وإنما يأتي بها إذا شاء . وما يشعركم أي وما يدريكم أيمانكم ; فحذف المفعول . ثم استأنف فقال : " إنها إذا جاءت لا يؤمنون " بكسر إن ، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير . ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود " وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون " . وقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بهذا المشركون ، وتم الكلام . حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون . وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ " تؤمنون " بالتاء . وقال الفراء وغيره ; الخطاب للمؤمنين ; لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون ; فقال الله تعالى : وما يشعركم .
وما يشعركم أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون . أنها بالفتح ، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة ، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون . قال الخليل : " أنها " بمعنى لعلها ; وحكاه عنه . وفي التنزيل : سيبويه وما يدريك لعله يزكى [ ص: 59 ] أي أنه يزكى . وحكي عن العرب : ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا ، أي لعلك . وقال أبو النجم :
قلت لشيبان ادن من لقائه أن تغدي القوم من شوائه
وقال عدي بن زيد :أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد
أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا