فيه أربع مسائل :
الأولى قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم لما بين تعالى أن الكفار تفرقوا بين أن الله هداه إلى الدين المستقيم وهو دين قوله تعالى إبراهيم
دينا نصب على الحال ; عن قطرب . وقيل : نصب ب هداني عن الأخفش . قال غيره : انتصب حملا على المعنى [ ص: 138 ] لأن معنى هداني عرفني دينا . ويجوز أن يكون بدلا من الصراط ، أي هداني صراطا مستقيما دينا . وقيل : منصوب بإضمار فعل ; فكأنه قال : اتبعوا دينا ، واعرفوا دينا .
قيما قرأه الكوفيون وابن عامر بكسر القاف والتخفيف وفتح الياء ، مصدر كالشبع فوصف به . والباقون بفتح القاف وكسر الياء وشدها ، وهما لغتان . وأصل الياء الواو " قيوم " ثم أدغمت الواو في الياء كميت .
ومعناه دينا مستقيما لا عوج فيه .
ملة إبراهيم بدل حنيفا قال الزجاج : هو حال من إبراهيم . وقال علي بن سليمان : هو نصب بإضمار : أعني .
الثانية : قوله تعالى قل إن صلاتي ونسكي قد تقدم اشتقاق لفظ الصلاة . وقيل : المراد بها هنا صلاة الليل . وقيل : صلاة العيد . والنسك جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ، وكذلك قال مجاهد والضحاك وغيرهم . والمعنى : ذبحي في الحج والعمرة . وقال وسعيد بن جبير الحسن : نسكي ديني . وقال الزجاج : عبادتي ; ومنه الناسك الذي يتقرب إلى الله بالعبادة . وقال قوم : النسك في هذه الآية جميع أعمال البر والطاعات ; من قولك نسك فلان فهو ناسك ، إذا تعبد .
ومحياي أي ما أعمله في حياتي ومماتي أي ما أوصي به بعد وفاتي .
لله رب العالمين أي أفرده بالتقرب بها إليه . وقيل : ومحياي ومماتي لله أي حياتي وموتي له . وقرأ الحسن : ( نسكي ) بإسكان السين . وأهل المدينة ( ومحياي ) بسكون الياء في الإدراج . والعامة بفتحها ; لأنه لا يجتمع ساكنان . قال النحاس : لم يجزه أحد من النحويين إلا يونس ، وإنما أجازه لأن قبله ألفا ، والألف المدة التي فيها تقوم مقام الحركة . وأجاز يونس اضربان زيدا ، وإنما منع النحويون هذا لأنه جمع بين ساكنين وليس في الثاني إدغام ، ومن قرأ بقراءة أهل المدينة وأراد أن يسلم من اللحن وقف على محياي فيكون غير لاحن عند جميع النحويين . وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعاصم الجحدري ( ومحيي ) بتشديد الياء الثانية من غير ألف ; وهي لغة عليا مضر يقولون : قفي وعصي . وأنشد أهل اللغة :
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم
وقد تقدم .الثالثة : قال إلكيا الطبري : قوله تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم إلى قوله : قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين استدل به على الشافعي بهذا الذكر ; فإن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله في كتابه ، ثم ذكر حديث افتتاح الصلاة علي رضي الله عنه . قلت : روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض [ ص: 139 ] حنيفا وما أنا من المشركين . إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . إلى قوله : وأنا من المسلمين مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب الحديث . وأخرجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال : وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين . إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله في يديك والشر ليس إليك . تباركت وتعاليت . أستغفرك وأتوب إليك وقال في آخره : بلغنا عن الدارقطني النضر بن شميل وكان من العلماء باللغة وغيرها قال : معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الشر ليس مما يتقرب به إليك . قال والشر ليس إليك مالك : ليس بواجب على الناس ، والواجب عليهم التكبير ثم القراءة . قال التوجيه في الصلاة ابن القاسم : لم ير مالك هذا الذي يقوله الناس قبل القراءة : سبحانك اللهم وبحمدك . وفي مختصر ما ليس في المختصر : أن كان يقوله في خاصة نفسه ; لصحة الحديث به ، وكان لا يراه للناس مخافة أن يعتقدوا وجوبه . قال مالكا : وكنت أصلي وراء شيخنا أبو الفرج الجوزي الفقيه في زمان الصبا ، فرآني مرة أفعل هذا فقال : يا بني ، إن الفقهاء قد اختلفوا في وجوب أبي بكر الدينوري ، ولم يختلفوا أن الافتتاح سنة ، فاشتغل بالواجب ودع السنن . والحجة قراءة الفاتحة خلف الإمام لمالك قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي علمه الصلاة : ولم يقل له سبح كما يقول إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ أبو حنيفة ، ولا قل وجهت وجهي ، كما يقول . وقال الشافعي لأبي : فلم يذكر توجيها ولا تسبيحا . فإن قيل : فإن كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال : قلت الله أكبر ، الحمد لله رب العالمين عليا قد أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوله . قلنا : يحتمل أن يكون [ ص: 140 ] قاله قبل التكبير ثم كبر ، وذلك حسن عندنا . فإن قيل : فقد روى النسائي والدارقطني الحديث قلنا : هذا نحمله على النافلة في صلاة الليل ; كما جاء في كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة كبر ثم يقول : إن صلاتي ونسكي عن النسائي أبي سعيد قال . أو في النافلة مطلقا ; فإن النافلة أخف من الفرض ; لأنه يجوز أن يصليها قائما وقاعدا وراكبا ، وإلى القبلة وغيرها في السفر ، فأمرها أيسر . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة بالليل قال : سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك
وقد روى عن النسائي محمد بن مسلمة وأنا أول المسلمين وهي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام يصلي تطوعا قال : الله أكبر . وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين . إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ثم يقرأ . وهذا نص في التطوع لا في الواجب . وإن صح أن ذلك كان في الفريضة بعد التكبير ، فيحمل على الجواز والاستحباب ، وأما المسنون فالقراءة بعد التكبير ، والله بحقائق الأمور عليم . ثم إذا قاله فلا يقل :
الرابعة : إذ ليس أحدهم بأولهم إلا محمدا صلى الله عليه وسلم . فإن قيل : أوليس إبراهيم والنبيون قبله ؟ قلنا عنه ثلاثة أجوبة : الأول : أنه أول الخلق أجمع معنى ; كما في حديث من قوله عليه السلام : أبي هريرة . وفي حديث نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة حذيفة . الثاني : أنه أولهم لكونه مقدما في الخلق عليهم ; قال الله تعالى : [ ص: 141 ] نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح . قال قتادة : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث . فلذلك وقع ذكره هنا مقدما قبل نوح وغيره . الثالث : أول المسلمين من أهل ملته ; قاله ، وهو قول ابن العربي قتادة وغيره .
واختلفت الروايات في " أول " ففي بعضها ثبوتها وفي بعضها لا ، على ما ذكرنا . وروى عمران بن حصين قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك في أول قطرة من دمها كل ذنب عملتيه ثم قولي : إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قال عمران : يا رسول الله ، هذا لك ولأهل بيتك خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : بل للمسلمين عامة . يا