الأولى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر لما حرم الله تعالى على الكفار أن يقربوا المسجد الحرام ، وجد المسلمون في أنفسهم بما قطع عنهم من التجارة التي كان المشركون يوافون بها ، قال الله عز وجل : ( وإن خفتم عيلة ) الآية . على ما تقدم . ثم أحل في هذه الآية الجزية وكانت لم تؤخذ قبل ذلك ، فجعلها عوضا مما منعهم من موافاة المشركين بتجارتهم . فقال الله عز وجل : قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر الآية . لإصفاقهم على هذا الوصف ، [ ص: 45 ] وخص فأمر سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار أهل الكتاب بالذكر إكراما لكتابهم ، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل ، وخصوصا ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته . فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة ، فنبه على محلهم ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلا عن القتل . وهو الصحيح . قال : سمعت ابن العربي أبا الوفاء علي بن عقيل في مجلس النظر يتلوها ويحتج بها . فقال : قاتلوا وذلك أمر بالعقوبة . ثم قال : الذين لا يؤمنون وذلك بيان للذنب الذي أوجب العقوبة . وقوله : ولا باليوم الآخر تأكيد للذنب في جانب الاعتقاد . ثم قال : ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله زيادة للذنب في مخالفة الأعمال . ثم قال : ولا يدينون دين الحق إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة والأنفة عن الاستسلام . ثم قال : من الذين أوتوا الكتاب تأكيد للحجة ؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل . ثم قال : حتى يعطوا الجزية عن يد فبين الغاية التي تمتد إليها العقوبة وعين البدل الذي ترتفع به .
الثانية : وقد اختلف العلماء ، قال فيمن تؤخذ منه الجزية رحمه الله : لا تقبل الجزية إلا من الشافعي أهل الكتاب خاصة عربا كانوا أو عجما لهذه الآية ، فإنهم هم الذين خصوا بالذكر فتوجه الحكم إليهم دون من سواهم لقوله عز وجل : فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . ولم يقل : حتى يعطوا الجزية كما قال في أهل الكتاب . وقال : وتقبل من المجوس بالسنة ؛ وبه قال أحمد . وهو مذهب وأبو ثور الثوري وأصحابه . وقال وأبي حنيفة الأوزاعي : تؤخذ الجزية من كل عابد وثن أو نار أو جاحد أو مكذب . وكذلك مذهب مالك ، فإنه رأى الجزية تؤخذ من جميع أجناس الشرك والجحد ، عربيا أو عجميا ، تغلبيا أو قرشيا ، كائنا من كان ، إلا المرتد . وقال ابن القاسم وأشهب : تؤخذ الجزية من وسحنون مجوس العرب والأمم كلها . وأما عبدة الأوثان من العرب فلم يستن الله فيهم جزية ، ولا يبقى على الأرض منهم أحد ، وإنما لهم القتال أو الإسلام . ويوجد لابن القاسم : أن الجزية تؤخذ منهم ، كما يقول مالك . وذلك في التفريع وهو احتمال لا نص . وقال لابن الجلاب ابن وهب : لا تقبل الجزية من مجوس العرب وتقبل من غيرهم . قال : لأنه ليس في العرب مجوسي إلا وجميعهم أسلم ، فمن وجد منهم بخلاف الإسلام فهو مرتد يقتل بكل حال إن لم يسلم ولا تقبل منهم جزية . وقال ابن الجهم : تقبل الجزية من كل من دان بغير الإسلام إلا ما أجمع [ ص: 46 ] عليه من كفار قريش . وذكر في تعليل ذلك أنه إكرام لهم عن الذلة والصغار ، لمكانهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال غيره : إنما ذلك لأن جميعهم أسلم يوم فتح مكة . والله أعلم .
الثالثة : وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا أن الجزية تؤخذ منهم . وفي الموطإ : مالك عن عن أبيه أن جعفر بن محمد عمر بن الخطاب ذكر أمر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم . فقال عبد الرحمن بن عوف : أهل الكتاب . قال أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أبو عمر : يعني في الجزية خاصة . وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهل الكتاب دليل على أنهم ليسوا أهل كتاب . وعلى هذا جمهور الفقهاء . وقد روي عن سنوا بهم سنة أنهم كانوا أهل كتاب فبدلوا . وأظنه ذهب في ذلك إلى شيء روي عن الشافعي علي بن أبي طالب رضي الله عنه من وجه فيه ضعف ، يدور على أبي سعيد البقال ، ذكره عبد الرزاق وغيره . قال ابن عطية : وروي أنه قد كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت . والله أعلم .
الرابعة : لم يذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه مقدارا للجزية المأخوذة منهم . وقد اختلف العلماء في المأخوذة منهم ، فقال مقدار الجزية عطاء بن أبي رباح : لا توقيت فيها ، وإنما هو على ما صولحوا عليه . وكذلك قال يحيى بن آدم وأبو عبيد ، إلا أن والطبري الطبري قال : أقله دينار وأكثره لا حد له . واحتجوا بما رواه أهل الصحيح عن عمرو بن عوف : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين على الجزية . وقال : دينار على الغني والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء واحتج بما رواه الشافعي أبو داود وغيره معاذ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن وأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا في الجزية . قال عن : وهو المبين عن الله تعالى مراده . وهو قول الشافعي . قال أبي ثور : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإن زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم . وإن صولحوا على ضيافة ثلاثة أيام جاز ، إذا كانت الضيافة معلومة في الخبز والشعير والتبن والإدام ، وذكر ما على الوسط من ذلك وما على الموسر وذكر موضع النزول والكن من البرد والحر . وقال الشافعي مالك فيما رواه عنه ابن القاسم وأشهب ومحمد بن الحارث بن زنجويه : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما [ ص: 47 ] على أهل الورق ، الغني والفقير سواء ولو كان مجوسيا . لا يزاد ولا ينقص على ما فرض عمر لا يؤخذ منهم غيره . وقد قيل : إن الضعيف يخفف عنه بقدر ما يراه الإمام . وقال ابن القاسم : لا ينقص من فرض عمر لعسر ولا يزاد عليه لغنى . قال أبو عمر : ويؤخذ من فقرائهم بقدر ما يحتملون ولو درهما . وإلى هذا رجع مالك . وقال أبو حنيفة وأصحابه ومحمد بن الحسن : اثنا عشر ، وأربعة وعشرون ، وأربعون . قال وأحمد بن حنبل الثوري : جاء عن عمر بن الخطاب في ذلك ضرائب مختلفة ، فللوالي أن يأخذ بأيها شاء ، إذا كانوا أهل ذمة . وأما أهل الصلح فما صولحوا عليه لا غير .
الخامسة : قال علماؤنا رحمة الله عليهم : والذي دل عليه القرآن أن ؛ لأنه تعالى قال : الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين قاتلوا الذين إلى قوله : حتى يعطوا الجزية فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل . ويدل على أنه ليس على ؛ لأنه لا مال له ، ولأنه تعالى قال : العبد وإن كان مقاتلا حتى يعطوا . ولا يقال لمن لا يملك حتى يعطي . وهذا إجماع من العلماء على أن الجزية إنما توضع على جماجم الرجال الأحرار البالغين ، وهم الذين يقاتلون دون النساء والذرية والعبيد والمجانين المغلوبين على عقولهم والشيخ الفاني . واختلف في ، فروى الرهبان ابن وهب عن مالك أنها لا تؤخذ منهم . قال مطرف : هذا إذا لم يترهب بعد فرضها فإن وابن الماجشون . فرضت ثم ترهب لم يسقطها ترهبه
السادسة : إلا أن يتجروا في بلاد غير بلادهم التي أقروا فيها وصولحوا عليها . فإن خرجوا تجارا عن بلادهم التي أقروا فيها إلى غيرها أخذ منهم العشر إذا باعوا ونض ثمن ذلك بأيديهم ولو كان ذلك في السنة مرارا إلا في حملهم الطعام : الحنطة والزيت إلى إذا أعطى أهل الجزية الجزية لم يؤخذ منهم شيء من ثمارهم ولا تجارتهم ولا زروعهم المدينة ومكة خاصة ، فإنه يؤخذ منهم نصف العشر على ما فعل عمر . ومن أهل المدينة من لا يرى أن يؤخذ من أهل الذمة العشر في تجارتهم إلا مرة في الحول ، مثل ما يؤخذ من المسلمين . وهو مذهب عمر بن عبد العزيز وجماعة من أئمة الفقهاء . والأول قول مالك وأصحابه .
السابعة : التي ضربت عليهم أو صولحوا عليها خلي بينهم وبين أموالهم كلها ، وبين كرومهم وعصرها ما ستروا خمورهم ولم يعلنوا بيعها من مسلم ، ومنعوا من إظهار الخمر والخنزير في أسواق المسلمين ، فإن أظهروا شيئا من ذلك أريقت الخمر عليهم ، وأدب من أظهر الخنزير . وإن أراقها مسلم من غير إظهارها فقد تعدى ، ويجب [ ص: 48 ] عليه الضمان . وقيل : لا يجب ولو غصبها وجب عليه ردها . ولا يعترض لهم في أحكامهم ولا متاجرتهم فيما بينهم بالربا . فإن تحاكموا إلينا فالحاكم مخير ، إن شاء حكم بينهم بما أنزل الله وإن شاء أعرض . وقيل : يحكم بينهم في المظالم على كل حال ، ويؤخذ من قويهم لضعيفهم ؛ لأنه من باب الدفع عنهم . وعلى الإمام أن يقاتل عنهم عدوهم ويستعين بهم في قتالهم . ولا حظ لهم في الفيء ، إذا أدى أهل الجزية جزيتهم لم يزيدوا عليها ، ولم يمنعوا من إصلاح ما وهى منها ، ولا سبيل لهم إلى إحداث غيرها . ويأخذون من اللباس والهيئة بما يبينون به من المسلمين ، ويمنعون من التشبه بأهل الإسلام . ولا بأس باشتراء أولاد العدو منهم إذا لم تكن لهم ذمة . ومن لد في أداء جزيته أدب على لدده وأخذت منه صاغرا . وما صولحوا عليه من الكنائس
الثامنة : اختلف العلماء ، فقال علماء فيما وجبت الجزية عنه المالكية : وجبت بدلا عن القتل بسبب الكفر . وقال : وجبت بدلا عن الدم وسكنى الدار . وفائدة الخلاف أنا إذا قلنا وجبت بدلا عن القتل فأسلم سقطت عنه الجزية لما مضى ، ولو أسلم قبل تمام الحول بيوم أو بعده عند الشافعي مالك . وعند أنها دين مستقر في الذمة فلا يسقطه الإسلام كأجرة الدار . وقال بعض الحنفية بقولنا . وقال بعضهم : إنما وجبت بدلا عن النصر والجهاد . واختاره الشافعي القاضي أبو زيد وزعم أنه سر الله في المسألة . وقول مالك أصح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : . قال ليس على مسلم جزية سفيان : معناه إذا بطلت عنه . أخرجه أسلم الذمي بعد ما وجبت الجزية عليه الترمذي وأبو داود . قال علماؤنا : وعليه يدل قوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون لأن بالإسلام يزول هذا المعنى . ولا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون . لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله الله تعالى . وإنما يقول : إن الجزية دين ، وجبت عليه بسبب سابق وهو السكنى أو توقي شر القتل ، فصارت كالديون كلها . والشافعي
التاسعة : لو عاهد الإمام أهل بلد أو حصن ثم نقضوا عهدهم وامتنعوا من أداء ما يلزمهم من الجزية وغيرها وامتنعوا من حكم الإسلام من غير أن يظلموا وكان الإمام غير جائر عليهم ؛ وجب على المسلمين غزوهم وقتالهم مع إمامهم . فإن قاتلوا وغلبوا حكم فيهم بالحكم في دار الحرب سواء . وقد قيل : هم ونساؤهم فيء ولا خمس فيهم ، وهو مذهب .
[ ص: 49 ] العاشرة : فإن خرجوا متلصصين قاطعين الطريق فهم بمنزلة المحاربين المسلمين إذا لم يمنعوا الجزية . ولو خرجوا متظلمين نظر في أمرهم وردوا إلى الذمة وأنصفوا من ظالمهم ولا يسترق منهم أحد وهم أحرار . فإن نقض بعضهم دون بعض فمن لم ينقض على عهده ، ولا يؤخذ بنقض غيره وتعرف إقامتهم على العهد بإنكارهم على الناقضين .
الحادية عشرة : الجزية وزنها فعلة ، من جزى يجزي إذا كافأ عما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالقعدة والجلسة . ومن هذا المعنى قول الشاعر :
يجزيك أو يثني عليك وإن من أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
الثانية عشرة : روى مسلم عن ومر على ناس من الأنباط هشام بن حكيم بن حزام بالشام قد أقيموا في الشمس - في رواية : وصب على رءوسهم الزيت - فقال : ما شأنهم ؟ فقال يحبسون في الجزية . فقال هشام : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : . في رواية : وأميرهم يومئذ إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا عمير بن سعد على فلسطين ، فدخل عليه فحدثه فأمر بهم فخلوا . قال علماؤنا : أما عقوبتهم إذا امتنعوا من أدائها مع التمكين فجائز ، فأما مع تبين عجزهم فلا تحل عقوبتهم ؛ لأن سقطت عنه . ولا يكلف الأغنياء أداءها عن الفقراء . وروى من عجز عن الجزية أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئا منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامةالثالثة عشرة : قوله تعالى : عن يد قال ابن عباس : يدفعها بنفسه غير مستنيب فيها أحدا روى أبو البختري عن سلمان قال : مذمومين . وروى معمر عن قتادة قال : عن قهر . وقيل : عن يد عن إنعام منكم عليهم ؛ لأنهم إذا أخذت منهم الجزية فقد أنعم عليهم بذلك . عكرمة : يدفعها وهو قائم والآخذ جالس وقاله سعيد بن جبير . : وهذا ليس من قوله : ابن العربي عن يد وإنما هو من قوله : وهم صاغرون .
[ ص: 50 ] الرابعة عشرة : روى الأئمة عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : واليد العليا : المنفقة ، والسفلى : السائلة . وروي : " اليد العليا خير من اليد السفلى " . فجعل يد المعطي في الصدقة عليا ، وجعل يد المعطي في الجزية سفلى . ويد الآخذ عليا ; ذلك بأنه الرافع الخافض ، يرفع من يشاء ويخفض من يشاء ، لا إله غيره . واليد العليا هي المعطية
الخامسة عشرة : عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : إن أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأؤدي خراجها ؟ فقال : لا . وجاءه آخر فقال له ذلك فقال : لا وتلا قوله تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : وهم صاغرون أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينتزعه فيجعله في عنقه وقال كليب بن وائل : قلت اشتريت أرضا قال الشراء حسن . قلت : فإني أعطي عن كل جريب أرض درهما وقفيز طعام . قال : لا تجعل في عنقك صغارا . وروى لابن عمر عن ميمون بن مهران ابن عمر رضي الله عنهما قال : ما يسرني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها بالصغار على نفسي .