فيه إحدى عشرة مسألة :
الأولى : إلا تنصروه يقول : تعينوه بالنفر معه في غزوة تبوك . عاتبهم الله بعد انصراف نبيه عليه السلام من تبوك . قال قوله تعالى النقاش : هذه والمعنى : إن تركتم نصره فالله يتكفل به ، إذ قد نصره الله في مواطن القلة وأظهره على عدوه بالغلبة والعزة . وقيل : فقد نصره الله بصاحبه في أول آية نزلت من سورة ( براءة ) الغار بتأنيسه له وحمله على عنقه ، وبوفائه ووقايته له بنفسه ومواساته له بماله . قال الليث بن سعد : ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر الصديق . وقال سفيان بن عيينة . خرج أبو بكر بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله : إلا تنصروه
الثانية : قوله تعالى إذ أخرجه الذين كفروا وهو خرج بنفسه فارا ، لكن بإلجائهم إلى ذلك حتى فعله ، فنسب الفعل إليهم ورتب الحكم فيه عليهم ، فلهذا يقتل المكره على القتل ويضمن المال المتلف بالإكراه ، لإلجائه القاتل والمتلف إلى القتل والإتلاف .
الثالثة : قوله تعالى ثاني اثنين أي أحد اثنين . وهذا كثالث ثلاثة ورابع أربعة . فإذا اختلف اللفظ فقلت : رابع ثلاثة وخامس أربعة ، فالمعنى صير الثلاثة أربعة بنفسه والأربعة خمسة . وهو منصوب على الحال ، أي أخرجوه منفردا من جميع الناس إلا من أبي بكر . [ ص: 75 ] والعامل فيها نصره الله أي نصره منفردا ونصره أحد اثنين . وقال علي بن سليمان : التقدير فخرج ثاني اثنين ، مثل والله أنبتكم من الأرض نباتا . وقرأ جمهور الناس ثاني بنصب الياء . قال أبو حاتم : لا يعرف غير هذا . وقرأت فرقة " ثاني " بسكون الياء . قال ابن جني : حكاها أبو عمرو بن العلاء ووجهه أنه سكن الياء تشبيها لها بالألف . قال ابن عطية : فهي كقراءة الحسن ما بقي من الربا وكقول جرير :
هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف
الرابعة : قوله تعالى إذ هما في الغار الغار : ثقب في الجبل ، يعني غار ثور . ولما رأت قريش أن المسلمين قد صاروا إلى المدينة قالوا : هذا شر شاغل لا يطاق ، فأجمعوا أمرهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبيتوه ورصدوه على باب منزله طول ليلتهم ليقتلوه إذا خرج ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام على فراشه ، ودعا الله أن يعمي عليهم أثره ، فطمس الله على أبصارهم فخرج وقد غشيهم النوم ، فوضع على رءوسهم ترابا ونهض فلما أصبحوا خرج عليهم علي رضي الله عنه وأخبرهم أن ليس في الدار أحد فعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فات ونجا وتواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق للهجرة ، فدفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أرقط . ويقال ابن أريقط ، وكان كافرا لكنهما وثقا به ، وكان دليلا بالطرق فاستأجراه ليدل بهما إلى المدينة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خوخة في ظهر دار أبي بكر التي في بني جمح ونهضا نحو الغار في جبل ثور ، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع ما يقول الناس ، وأمر مولاه عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه ويريحها عليهما ليلا فيأخذ منها حاجتهما . ثم نهضا فدخلا الغار . وكانت تأتيهما بالطعام ويأتيهما أسماء بنت أبي بكر الصديق عبد الله بن أبي بكر بالأخبار ، ثم يتلوهما عامر بن فهيرة بالغنم فيعفي آثارهما . فلما فقدته قريش جعلت تطلبه بقائف معروف بقفاء الأثر ، حتى وقف على الغار فقال : هنا انقطع الأثر . فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار من ساعته ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله ، فلما رأوا نسج العنكبوت أيقنوا أن لا أحد فيه فرجعوا وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة لمن رده عليهم ، الخبر مشهور ، وقصة سراقة بن مالك بن جعشم في ذلك مذكورة . وقد روي من حديث أبي الدرداء وثوبان [ ص: 76 ] رضي الله عنهما : أن الله عز وجل أمر حمامة فباضت على نسج العنكبوت ، وجعلت ترقد على بيضها ، فلما نظر الكفار إليها ردهم ذلك عن الغار .الخامسة : روى عن البخاري عائشة قالت : وأبو بكر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وهو على دين كفار قريش فدفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما براحلتيهما صبيحة ثلاث فارتحلا وارتحل معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم طريق الساحل . استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال المهلب : فيه من الفقه كما ائتمن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المشرك على سره في الخروج من ائتمان أهل الشرك على السر والمال إذا علم منهم وفاء ومروءة مكة وعلى الناقتين . وقال ابن المنذر : فيه . وقال استئجار المسلمين الكفار على هداية الطريق في ترجمته : [ باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام ] قال البخاري ابن بطال : إنما قال في ترجمته [ أو إذا لم يوجد أهل الإسلام ] من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما عامل البخاري أهل خيبر على العمل في أرضها إذ لم يوجد من المسلمين من ينوب منابهم في عمل الأرض ، حتى قوي الإسلام واستغني عنهم أجلاهم عمر . وعامة الفقهاء يجيزون استئجارهم عند الضرورة وغيرها . وفيه : استئجار الرجلين الرجل الواحد على عمل واحد لهما . وفيه : دليل على جواز ، والاستخفاء في الغيران وغيرها ألا يلقي الإنسان بيده إلى العدو توكلا على الله واستسلاما له . ولو شاء ربكم لعصمه مع كونه معهم ولكنها سنة الله في الأنبياء وغيرهم ، ولن تجد لسنة الله تبديلا . وهذا أدل دليل على فساد من منع ذلك وقال : من خاف مع الله سواه كان ذلك نقصا في توكله ، ولم يؤمن بالقدر . وهذا كله في معنى الآية ، ولله الحمد والهداية الفرار بالدين خوفا من العدو
السادسة : قوله تعالى إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا هذه الآية تضمنت الصديق رضي الله عنه . روى فضائل أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا هو الصديق . فحقق الله تعالى قوله له بكلامه ووصف الصحبة في كتابه . قال بعض العلماء : من عمر وعثمان أو أحد [ ص: 77 ] من الصحابة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كذاب مبتدع . ومن أنكر أن يكون أبو بكر رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر ؛ لأنه أنكر أن يكون . ومعنى رد نص القرآن إن الله معنا أي بالنصر والرعاية والحفظ والكلاءة . روى الترمذي قالا : حدثنا والحارث بن أبي أسامة عفان قال حدثنا همام قال أخبرنا ثابت أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما . قال عن المحاسبي : يعني معهما بالنصر والدفاع ، لا على معنى ما عم به الخلائق فقال : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم . فمعناه العموم أنه يسمع ويرى من الكفار والمؤمنين .
السابعة : قال : ابن العربي أبي بكر في الغار دليل على جهله ونقصه وضعف قلبه وخرقه . وأجاب علماؤنا عن ذلك بأن إضافة الحزن إليه ليس بنقص ، كما لم ينقص قالت الإمامية قبحها الله : حزن إبراهيم حين قال عنه : نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف . ولم ينقص موسى قوله : فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا لا تخف . وفي لوط : ولا تحزن إنا منجوك وأهلك . فهؤلاء العظماء صلوات الله عليهم قد وجدت عندهم التقية نصا ولم يكن ذلك طعنا عليهم ووصفا لهم بالنقص ، وكذلك في أبي بكر . ثم هي عند الصديق احتمال ، فإنه قال : لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .
جواب ثان : إن حزن الصديق إنما كان خوفا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل إليه ضرر ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت معصوما وإنما نزل عليه والله يعصمك من الناس بالمدينة .
الثامنة : قال : قال لنا ابن العربي أبو الفضائل العدل قال لنا جمال الإسلام أبو القاسم قال موسى صلى الله عليه وسلم : كلا إن معي ربي سيهدين وقال في محمد صلى الله عليه وسلم : لا تحزن إن الله معنا لا جرم لما كان الله مع موسى وحده ارتد أصحابه بعده ، فرجع من عند ربه ووجدهم يعبدون العجل . ولما قال في محمد صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا بقي أبو بكر مهتديا موحدا عالما جازما قائما بالأمر ولم يتطرق إليه اختلال .
[ ص: 78 ] التاسعة : خرج الترمذي من حديث نبيط بن شريط عن سالم بن عبيد - له صحبة - قال : أغمي على رسول الله صلى الله عليه وسلم . . . ، الحديث . وفيه : واجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا : انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار ندخلهم معنا في هذا الأمر . فقالت الأنصار : منا أمير ومنكم أمير . فقال عمر رضي الله عنه : من له مثل هذه الثلاث ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا من هما ؟ قال : ثم بسط يده فبايعه جميلة . وبايعه الناس بيعة حسنة
قلت : ولهذا قال بعض العلماء : في قوله تعالى : ثاني اثنين إذ هما في الغار ما يدل على أن أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؛ لأن الخليفة لا يكون أبدا إلا ثانيا . وسمعت شيخنا الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم الإمام أبا العباس أحمد بن عمر يقول : إنما استحق الصديق أن يقال له ثاني اثنين لقيامه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر ، كقيام النبي صلى الله عليه وسلم به أولا . وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدت العرب كلها ، ولم يبق الإسلام إلا بالمدينة ومكة وجواثا ، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه " ثاني اثنين " .
قلت : وقد جاء في السنة أحاديث صحيحة ، يدل ظاهرها على أنه الخليفة بعده ، وقد انعقد الإجماع على ذلك ولم يبق منهم مخالف . والقادح في خلافته مقطوع بخطئه وتفسيقه . وهل يكفر أم لا ، يختلف فيه ، والأظهر تكفيره . وسيأتي لهذا المعنى مزيد بيان في سورة ( الفتح ) إن شاء الله . والذي يقطع به من الكتاب والسنة وأقوال علماء الأمة ويجب أن تؤمن به القلوب والأفئدة . ولا مبالاة بأقوال أهل الشيع ولا أهل البدع ، فإنهم بين مكفر تضرب رقبته ، وبين مبتدع مفسق لا تقبل كلمته . ثم بعد الصديق ، فضل الصديق على جميع الصحابة عمر الفاروق ، ثم بعده عثمان . روى عن البخاري ابن عمر قال : كنا نخير بين الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخير أبا بكر ثم عمر ثم عثمان . واختلف أئمة أهل السلف في عثمان وعلي ، فالجمهور منهم على تقديم عثمان . وروي عن مالك أنه توقف في ذلك . وروي عنه أيضا أنه رجع إلى ما عليه الجمهور . وهو الأصح إن شاء الله .
[ ص: 79 ] العاشرة : قوله تعالى فأنزل الله سكينته عليه فيه قولان : أحدهما : على النبي صلى الله عليه وسلم . والثاني : على أبي بكر . : قال علماؤنا : وهو الأقوى ؛ لأنه خاف على النبي صلى الله عليه وسلم من القوم فأنزل الله سكينته عليه بتأمين النبي صلى الله عليه وسلم ، فسكن جأشه وذهب روعه وحصل الأمن وأنبت الله سبحانه ثمامة ، وألهم الوكر هناك حمامة وأرسل العنكبوت فنسجت بيتا عليه . فما أضعف هذه الجنود في ظاهر الحس وما أقواها في باطن المعنى ولهذا المعنى قال النبي صلى الله عليه وسلم ابن العربي لعمر حين تغامر مع الصديق : أبو بكر صدقت رواه هل أنتم تاركو لي صاحبي إن الناس كلهم قالوا كذبت وقال أبو الدرداء .
الحادية عشرة : قوله تعالى وأيده بجنود لم تروها أي من الملائكة . والكناية في قوله وأيده ترجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم . والضميران يختلفان ، وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .
وجعل كلمة الذين كفروا السفلى أي كلمة الشرك . وكلمة الله هي العليا قيل : لا إله إلا الله . وقيل : وعد النصر . وقرأ الأعمش ويعقوب " وكلمة الله " بالنصب حملا على ( جعل ) والباقون بالرفع على الاستئناف . وزعم الفراء أن قراءة النصب بعيدة ، قال : لأنك تقول أعتق فلان غلام أبيه ، ولا تقول غلام أبي فلان . وقال أبو حاتم نحوا من هذا . قال : كان يجب أن يقال وكلمته هي العليا . قال النحاس : الذي ذكره الفراء لا يشبه الآية ، ولكن يشبهها ما أنشد : سيبويه
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا