الأولى : قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة اختلف في هذه الصدقة المأمور بها ; فقيل : هي صدقة الفرض ; قاله جويبر عن ابن عباس ، وهو قول عكرمة فيما ذكر القشيري . وقيل : هو مخصوص بمن نزلت فيه ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ منهم ثلث أموالهم ، وليس هذا من [ ص: 166 ] الزكاة المفروضة في شيء ; ولهذا قال مالك : أجزأه إخراج الثلث ; متمسكا بحديث إذا تصدق الرجل بجميع ماله أبي لبابة . وعلى القول الأول فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي بظاهره اقتصاره عليه فلا يأخذ الصدقة سواه ، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه وزوالها بموته . وبهذا تعلق مانعو الزكاة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقالوا : إنه كان يعطينا عوضا منها التطهير والتزكية والصلاة علينا وقد عدمناها من غيره . ونظم في ذلك شاعرهم فقال :
أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر وإن الذي سألوكم فمنعتم
لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر سنمنعهم ما دام فينا بقية
كرام على الضراء في العسر واليسر
الثانية : قوله تعالى من أموالهم ذهب بعض العرب وهم دوس : إلى أن المال [ ص: 167 ] الثياب والمتاع والعروض . ولا تسمي العين مالا . وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك عن ثور بن زيد الديلي عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن قال : أبي هريرة خيبر فلم نغنم ذهبا ولا ورقا إلا الأموال الثياب والمتاع . الحديث . وذهب غيرهم إلى أن المال الصامت من الذهب والورق . وقيل : الإبل خاصة ; ومنه قولهم : المال الإبل . وقيل : جميع الماشية . وذكر خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى ثعلب النحوي قال : ما قصر عن بلوغ ما تجب فيه الزكاة من الذهب والورق فليس بمال ; وأنشد :
والله ما بلغت لي قط ماشية حد الزكاة ولا إبل ولا مال
الثالثة : قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة مطلق غير مقيد بشرط في المأخوذ والمأخوذ منه ، ولا تبيين مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه . وإنما بيان ذلك في السنة والإجماع . حسب ما نذكره فتؤخذ الزكاة من جميع الأموال . وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما لا خلاف فيه . واختلفوا فيما سوى ذلك كالخيل وسائر العروض . وسيأتي ذكر الخيل والعسل في ( النحل ) إن شاء الله . روى الأئمة عن الزكاة في المواشي والحبوب والعين أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : . وقد مضى الكلام في ( الأنعام ) في زكاة الحبوب وما تنبته الأرض مستوفى . وفي المعادن في ( البقرة ) وفي الحلي في هذه السورة . [ ص: 168 ] وأجمع العلماء على أن الأوقية أربعون درهما ; فإذا ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة - وهي الخمس أواق المنصوصة في الحديث - حولا كاملا فقد وجبت عليه صدقتها ، وذلك ربع عشرها خمسة دراهم . وإنما اشترط الحول لقوله عليه السلام : ملك الحر المسلم مائتي درهم من فضة مضروبة . أخرجه ليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول الترمذي . وما زاد على المائتي درهم من الورق فبحساب ذلك من كل شيء منه ربع عشره قل أو كثر ; هذا قول مالك والليث وأكثر أصحاب والشافعي أبي حنيفة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد . وروي ذلك عن علي . وقالت طائفة : لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى تبلغ الزيادة أربعين درهما ; فإذا بلغتها كان فيها درهم وذلك ربع عشرها . هذا قول وابن عمر سعيد بن المسيب والحسن وعطاء وطاوس والشعبي والزهري ومكحول وعمرو بن دينار . وأبي حنيفة
الرابعة : وأما زكاة الذهب فالجمهور من العلماء على أن الذهب إذا كان عشرين دينارا قيمتها مائتا درهم فما زاد أن الزكاة فيها واجبة ; على حديث علي ، أخرجه الترمذي عن ضمرة والحارث عن علي . قال الترمذي : سألت عن هذا الحديث فقال كلاهما عندي صحيح عن محمد بن إسماعيل أبي إسحاق ، يحتمل أن يكون عنهما جميعا . وقال في المنتقى : وهذا الحديث ليس إسناده هناك ، غير أن اتفاق العلماء على الأخذ به دليل على صحة حكمه ، والله أعلم . وروي عن الباجي الحسن ، وإليه مال بعض أصحاب والثوري داود بن علي على أن . وهذا يرده حديث الذهب لا زكاة فيه حتى يبلغ أربعين دينارا علي وحديث ابن عمر وعائشة ; على هذا جماعة أهل العلم إلا من ذكر . أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من كل عشرين دينارا نصف دينار ، ومن الأربعين دينارا دينارا
الخامسة : اتفقت الأمة على أن . فإذا بلغت خمسا ففيها شاة . والشاة تقع على واحدة من الغنم ، والغنم الضأن والمعز جميعا . وهذا أيضا [ ص: 169 ] اتفاق من العلماء أنه ليس في خمس إلا شاة واحدة ; وهي فريضتها . وصدقة المواشي مبينة في الكتاب الذي كتبه ما كان دون خمس ذود من الإبل فلا زكاة فيه الصديق لأنس لما وجهه إلى البحرين ; أخرجه البخاري وأبو داود والدارقطني والنسائي وغيرهم ، وكله متفق عليه . والخلاف فيه في موضعين أحدهما في وابن ماجه وهي إذا بلغت إحدى وعشرين ومائة فقال زكاة الإبل ، مالك : المصدق بالخيار إن شاء أخذ ثلاث بنات لبون ، وإن شاء أخذ حقتين . وقال ابن القاسم : وقال ابن شهاب : فيها ثلاث بنات لبون إلى أن تبلغ ثلاثين ومائة فتكون فيها حقة وابنتا لبون . قال ابن القاسم : ورأيي على قول ابن شهاب . وذكر ابن حبيب أن عبد العزيز بن أبي سلمة وعبد العزيز بن أبي حازم وابن دينار يقولون بقول مالك . وأما الموضع الثاني فهو في وهي إذا زادت على ثلاثمائة شاة وشاة ; فإن صدقة الغنم قال : فيها أربع شياه . وإذا كانت أربعمائة شاة وشاة ففيها خمس شياه ; وهكذا كلما زادت ، في كل مائة شاة . وروي عن الحسن بن صالح بن حي مثله . وقال الجمهور : في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه ، ثم لا شيء فيها إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ; ثم كلما زادت مائة ففيها شاة ; إجماعا واتفاقا . قال إبراهيم النخعي : وهذه مسألة وهم فيها ابن عبد البر ابن المنذر ، وحكى فيها عن العلماء الخطأ ، وخلط وأكثر الغلط .
السادسة : لم يذكر ولا البخاري مسلم في صحيحيهما تفصيل زكاة البقر . وخرجه أبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني في موطئه وهي مرسلة ومقطوعة وموقوفة . قال ومالك أبو عمر : وقد رواه قوم عن طاوس عن معاذ ، إلا أن الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه . وممن أسنده بقية عن المسعودي عن الحكم عن طاوس . وقد اختلفوا فيما ينفرد به بقية عن الثقات . ورواه الحسن بن عمارة عن الحكم كما رواه بقية عن المسعودي عن الحكم ، والحسن مجتمع على ضعفه . وقد روي هذا الخبر بإسناد متصل صحيح ثابت من غير رواية طاوس ; ذكره عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن والثوري الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل قال : اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة ، ومن أربعين مسنة ، ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر ; ذكره بعثني رسول الله عليه وسلم إلى الدارقطني وأبو عيسى [ ص: 170 ] الترمذي وصححه . قال أبو عمر . ولا خلاف بين العلماء أن الزكاة في عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قال زكاة البقر معاذ بن جبل : في ثلاثين بقرة تبيع ، وفي أربعين مسنة إلا شيء روي عن سعيد بن المسيب وأبي قلابة والزهري وقتادة ; فإنهم يوجبون في كل خمس من البقر شاة إلى ثلاثين . فهذه جملة من تفصيل الزكاة بأصولها وفروعها في كتب الفقه . ويأتي ذكر الخلطة في سورة ( ص ) إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله تعالى ( صدقة ) مأخوذ من الصدق ; إذ هي دليل على صحة إيمانه ، وصدق باطنه مع ظاهره ، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات . ( تطهرهم وتزكيهم بها ) حالين للمخاطب ; التقدير : خذها مطهرا لهم ومزكيا لهم بها . ويجوز أن يجعلهما صفتين للصدقة ; أي صدقة مطهرة لهم مزكية ، ويكون فاعل ( تزكيهم ) المخاطب ، ويعود الضمير الذي في ( بها ) على الموصوف المنكر . وحكى النحاس ومكي أن ( تطهرهم ) من صفة الصدقة ( وتزكيهم بها ) حال من الضمير في ( خذ ) وهو النبي صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن تكون حالا من الصدقة ، وذلك ضعيف لأنها حال من نكرة . وقال الزجاج : والأجود أن تكون المخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم ; أي فإنك ( تطهرهم وتزكيهم بها ) ، على القطع والاستئناف . ويجوز الجزم على جواب الأمر ، والمعنى : إن تأخذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم ; ومنه قول امرئ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وقرأ الحسن " تطهرهم " بسكون الطاء وهو منقول بالهمزة من طهر وأطهرته ، مثل ظهر وأظهرته .الثامنة : قوله تعالى وصل عليهم أصل في فعل . روى كل إمام يأخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق بالبركة مسلم عن عبد الله بن أبي أوفى قال : ابن أبي أوفى بصدقته فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى . ذهب قوم إلى هذا ، وذهب آخرون إلى أن هذا منسوخ بقوله تعالى : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل عليهم . فأتاه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا . قالوا : صلى الله عليه وسلم وحده خاصة ; [ ص: 171 ] لأنه خص بذلك . واستدلوا بقوله تعالى : فلا يجوز أن يصلى على أحد إلا على النبي لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا الآية . وبأن كان يقول : لا يصلى على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم . والأول أصح ; فإن الخطاب ليس مقصورا عليه كما تقدم ; ويأتي في الآية بعد هذا . فيجب الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتأسي به ; لأنه كان يمتثل قوله : عبد الله بن عباس وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم أي إذا دعوت لهم حين يأتون بصدقاتهم سكن ذلك قلوبهم وفرحوا به . وقد روى قال : جابر بن عبد الله . والصلاة هنا الرحمة والترحم . قال أتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت لامرأتي : لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ; فقالت : يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندنا ولا نسأله شيئا! فقالت : يا رسول الله ; صل على زوجي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلى الله عليك وعلى زوجك النحاس : وحكى أهل اللغة جميعا فيما علمناه أن ; ومنه الصلاة على الجنائز . وقرأ الصلاة في كلام العرب الدعاء حفص وحمزة : والكسائي إن صلاتك بالتوحيد . وجمع الباقون . وكذلك الاختلاف في أصلاتك تأمرك وقرئ ( سكن ) بسكون الكاف . قال قتادة : معناه وقار لهم . والسكن : ما تسكن به النفوس وتطمئن به القلوب .