قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين فيه خمس مسائل : الأولى : ونادى نوح ربه أي دعاه . قوله تعالى :
فقال رب إن ابني من أهلي أي من أهلي الذين وعدتهم أن تنجيهم من الغرق ; ففي الكلام حذف .
وإن وعدك الحق يعني الصدق . وقال علماؤنا : وإنما سأل نوح ربه ابنه لقوله : " وأهلك " وترك قوله : إلا من سبق عليه القول فلما كان عنده من أهله قال : رب إن ابني من أهلي يدل على ذلك قوله : ولا تكن من الكافرين أي لا تكن ممن لست منهم ; لأنه كان عنده مؤمنا في ظنه ، ولم يك نوح يقول لربه : إن ابني من أهلي إلا وذلك عنده كذلك ; إذ محال أن يسأل هلاك الكفار ، [ ص: 42 ] ثم يسأل في إنجاء بعضهم ; وكان ابنه يسر الكفر ويظهر الإيمان ; فأخبر الله تعالى نوحا بما هو منفرد به من علم الغيوب ; أي علمت من حال ابنك ما لم تعلمه أنت . وقال الحسن : كان منافقا ; ولذلك استحل نوح أن يناديه . وعنه أيضا : كان ابن امرأته ; دليله قراءة علي " ونادى نوح ابنها " .
وأنت أحكم الحاكمين ابتداء وخبر . أي حكمت على قوم بالنجاة ، وعلى قوم بالغرق .
الثانية : قال يانوح إنه ليس من أهلك أي ليس من أهلك الذين وعدتهم أن أنجيهم ; قاله سعيد بن جبير . وقال الجمهور : ليس من أهل دينك ولا ولايتك ; فهو على حذف مضاف ; وهذا يدل على أن حكم الاتفاق في الدين أقوى من حكم النسب .
إنه عمل غير صالح قرأ ابن عباس وعروة وعكرمة ويعقوب " إنه عمل غير صالح " أي من الكفر والتكذيب ; واختاره والكسائي أبو عبيد . وقرأ الباقون " عمل " أي ابنك ذو عمل غير صالح فحذف المضاف ; قاله الزجاج وغيره . قال :
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت فإنما هي إقبال وإدبار
أي ذات إقبال وإدبار . وهذا القول والذي قبله يرجع إلى معنى واحد . ويجوز أن تكون الهاء للسؤال ; أي إن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح . قال قتادة . وقال الحسن : معنى " عمل غير صالح " أنه ولد على فراشه ولم يكن ابنه . وكان لغير رشدة ، وقاله أيضا مجاهد . قال قتادة سألت الحسن عنه فقال : والله ما كان ابنه ; قلت إن الله أخبر عن نوح أنه قال : إن ابني من أهلي فقال : لم يقل مني ، وهذه إشارة إلى أنه كان ابن امرأته من زوج آخر ; فقلت له : إن الله حكى عنه أنه قال : إن ابني من أهلي ونادى نوح ابنه ولا يختلف أهل الكتابين أنه ابنه ; فقال الحسن : ومن يأخذ دينه عن أهل الكتاب ! إنهم يكذبون . وقرأ : " فخانتاهما " . وقال : ناداه وهو يحسب أنه ابنه ، وكان ولد على فراشه ، وكانت امرأته خانته فيه ، ولهذا قال : " فخانتاهما " . وقال ابن جريج ابن عباس : ( ما بغت امرأة نبي قط ) ، وأنه كان ابنه لصلبه . وكذلك قال الضحاك وعكرمة وسعيد بن جبير وغيرهم ، وأنه كان ابنه لصلبه . وقيل وميمون بن مهران يقول لسعيد بن جبير نوح : إن ابني من أهلي أكان من أهله ؟ أكان ابنه ؟ فسبح الله طويلا ثم قال : ( لا إله إلا الله ! يحدث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أنه ابنه ، وتقول إنه ليس ابنه ! نعم كان ابنه ; ولكن كان مخالفا في النية والعمل والدين ، ولهذا قال الله تعالى : إنه ليس من أهلك ) ; وهذا هو الصحيح في الباب إن شاء الله تعالى لجلالة من قال به ، وإن قوله : إنه ليس من أهلك [ ص: 43 ] ليس مما ينفي عنه أنه ابنه . وقوله : " فخانتاهما " يعني في الدين لا في الفراش ، وذلك أن هذه كانت تخبر الناس أنه مجنون ، وذلك أنها قالت له : أما ينصرك ربك ؟ فقال لها : نعم . قالت : فمتى ؟ قال : إذا فار التنور ; فخرجت تقول لقومها : يا قوم والله إنه لمجنون ، يزعم أنه لا ينصره ربه إلا أن يفور هذا التنور ، فهذه خيانتها . وخيانة الأخرى أنها كانت تدل على الأضياف على ما سيأتي إن شاء الله . والله أعلم . وقيل : الولد قد يسمى عملا كما يسمى كسبا ، كما في الخبر ( ) . ذكره أولادكم من كسبكم القشيري .
الثالثة : في هذه الآية تسلية للخلق في فساد أبنائهم وإن كانوا صالحين . وروي أن ابن مالك بن أنس نزل من فوق ومعه حمام قد غطاه ، قال : فعلم مالك أنه قد فهمه الناس ; فقال مالك : الأدب أدب الله لا أدب الآباء والأمهات ، والخير خير الله لا خير الآباء والأمهات . وفيها أيضا دليل على أن الابن من الأهل لغة وشرعا ، ومن أهل البيت ; فمن وصى لأهله دخل في ذلك ابنه ، ومن تضمنه منزله ، وهو في عياله . وقال تعالى في آية أخرى : ولقد نادانا نوح فلنعم المجيبون ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى جميع من ضمه منزله من أهله .
الرابعة : ودلت الآية على قول الحسن ومجاهد وغيرهما : أن ; ولذلك قال الولد للفراش نوح ما قال آخذا بظاهر الفراش . وقد روى سفيان بن عيينة عن أنه سمع عمرو بن دينار يقول : نرى رسول الله - صلى عليه وسلم - إنما قضى بالولد للفراش من أجل ابن عبيد بن عمير نوح - عليه السلام - ; ذكره أبو عمر في كتاب " التمهيد " . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : يريد الخيبة . وقيل : الرجم بالحجارة . وقرأ الولد للفراش وللعاهر الحجر عروة بن الزبير . " ونادى نوح ابنها " يريد ابن امرأته ، وهي تفسير القراءة المتقدمة عنه ، وعن علي - رضي الله عنه - وهي حجة للحسن ومجاهد ; إلا أنها قراءة شاذة ، فلا نترك المتفق عليها لها . والله أعلم .
الخامسة : إني أعظك أن تكون من الجاهلين أي أنهاك عن هذا [ ص: 44 ] السؤال ، وأحذرك لئلا تكون ، أو كراهية أن تكون من الجاهلين ; أي الآثمين . ومنه قوله تعالى : قوله تعالى : يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا أي يحذركم الله وينهاكم . وقيل : المعنى أرفعك أن تكون من الجاهلين . قال : وهذه زيادة من الله وموعظة يرفع بها ابن العربي نوحا عن مقام الجاهلين ، ويعليه بها إلى مقام العلماء والعارفين ; ف " قال " نوح : رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم الآية ، وهذه ذنوب الأنبياء - عليهم السلام - فشكر الله تذلله وتواضعه .
وإلا تغفر لي : ما فرط من السؤال .
" وترحمني " أي بالتوبة .
أكن من الخاسرين أي أعمالا . فقال : يا نوح اهبط بسلام منا .