قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها فيه ثلاث مسائل : قوله تعالى :
الأولى : قال العلماء : لما برأت نفسها ; ولم تكن صادقة في حبه - لأن من شأن المحب إيثار المحبوب - قال : هي راودتني عن نفسي نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه . قال نوف الشامي وغيره : كأن يوسف - عليه السلام - لم يبن عن كشف القضية ، فلما بغت به غضب فقال الحق .
الثانية : قوله تعالى : وشهد شاهد من أهلها لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب ، فشهد شاهد من أهلها . أي حكم حاكم من أهلها ; لأنه حكم منه وليس بشهادة . وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة : الأول - أنه طفل في المهد تكلم ; قال السهيلي : وهو الصحيح ; للحديث الوارد فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قوله : يوسف شاهد . وقال لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة . . . وذكر فيهم : قيل فيه : كان صبيا في المهد في الدار وهو ابن خالتها ; وروى القشيري أبو نصر سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه [ ص: 152 ] قال : تكلم أربعة وهم صغار . . . فذكر منهم شاهد يوسف ; فهذا قول . الثاني - أن الشاهد قد القميص ; رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ، وهو مجاز صحيح من جهة اللغة ; فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال ; وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات وتخبر عنها بما هي عليه من الصفات ، وذلك كثير في أشعارها وكلامها ; ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال له : سل من يدقني . إلا أن قول الله تعالى بعد " من أهلها " يبطل أن يكون القميص . الثالث - أنه خلق من خلق الله تعالى ليس بإنسي ولا بجني ; قاله مجاهد أيضا ، وهذا يرده قوله تعالى : " من أهلها " . الرابع - أنه رجل حكيم ذو عقل كان الوزير يستشيره في أموره ، وكان من جملة أهل المرأة وكان مع زوجها فقال : قد سمعت الاستبدار والجلبة من وراء الباب ، وشق القميص ، فلا يدرى أيكما كان قدام صاحبه ; فإن كان شق القميص من قدامه فأنت صادقة ، وإن كان من خلفه فهو صادق ، فنظروا إلى القميص فإذا هو مشقوق من خلف ; هذا قول الحسن وعكرمة وقتادة والضحاك ومجاهد أيضا . قال والسدي : كان ابن عمها ; وروي عن السدي ابن عباس ، وهو الصحيح في الباب ، والله أعلم . وروي عن ابن عباس - رواه عنه إسرائيل عن سماك عن عكرمة - قال : كان رجلا ذا لحية . وقال سفيان عن جابر عن عن ابن أبي مليكة ابن عباس أنه قال : كان من خاصة الملك . وقال عكرمة : لم يكن بصبي ، ولكن كان رجلا حكيما . وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال : كان رجلا . قال : والأشبه بالمعنى - والله أعلم - أن يكون رجلا عاقلا حكيما شاوره الملك فجاء بهذه الدلالة ; ولو كان طفلا لكانت شهادته أبو جعفر النحاس ليوسف - صلى الله عليه وسلم - تغني عن أن يأتي بدليل من العادة ; لأن كلام الطفل آية معجزة ، فكانت أوضح من الاستدلال بالعادة ; وليس هذا بمخالف للحديث منهم صاحب يوسف ، يكون المعنى : صغيرا ليس بشيخ ; وفي هذا دليل آخر وهو : أن تكلم أربعة وهم صغار ابن عباس - رضي الله عنهما - روى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تواترت الرواية عنه أن صاحب يوسف ليس بصبي .
قلت : قد روي عن ابن عباس وأبي هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك أنه كان صبيا في المهد ; إلا أنه لو كان صبيا تكلم لكان الدليل نفس كلامه ، دون أن يحتاج إلى استدلال بالقميص ، وكان يكون ذلك خرق عادة ، ونوع معجزة ; والله أعلم . وسيأتي من تكلم في المهد من الصبيان في سورة [ البروج ] إن شاء الله .
[ ص: 153 ] الثالثة : إذا تنزلنا على أن يكون الشاهد طفلا صغيرا فلا يكون فيه دلالة على كما ذكرنا ; وإذا كان رجلا فيصح أن يكون حجة بالحكم بالعلامة في اللقطة وكثير من المواضع ; حتى قال العمل بالأمارات مالك في اللصوص : إذا وجدت معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها ، وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم لهم في ذلك ; فإن لم يأت غيرهم دفعها إليهم . وقال محمد في : إن ما كان للرجال فهو للرجل ، وما كان للنساء فهو للمرأة ، وما كان للرجل والمرأة فهو للرجل . وكان متاع البيت إذا اختلفت فيه المرأة والرجل شريح يعملان على العلامات في الحكومات ; وأصل ذلك هذه الآية ، والله أعلم . وإياس بن معاوية
قوله تعالى : إن كان قميصه قد من قبل كان في موضع جزم بالشرط ، وفيه من النحو ما يشكل ، لأن حروف الشرط ترد الماضي إلى المستقبل ، وليس هذا في كان ; فقال : هذا لقوة كان ، وأنه يعبر بها عن جميع الأفعال . وقال المبرد محمد بن يزيد الزجاج : المعنى إن يكن ; أي إن يعلم ، والعلم لم يقع ، وكذا الكون لأنه يؤدي عن العلم . " قد من قبل " فخبر عن كان بالفعل الماضي ; كما قال زهير :
وكان طوى كشحا على مستكنة فلا هو أبداها ولم يتقدم
وقرأ يحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق من " قبل " بضم القاف والباء واللام ، وكذا " دبر " قال الزجاج : يجعلهما غايتين كقبل وبعد ; كأنه قال : من قبله ومن دبره ، فلما حذف المضاف إليه - وهو مراد - صار المضاف غاية نفسه بعد أن كان المضاف إليه غاية له . ويجوز " من قبل " " ومن دبر " بفتح الراء واللام تشبيها بما لا ينصرف ; لأنه معرفة ومزال عن بابه . وروى محبوب عن أبي عمرو من قبل ومن دبر مخففان مجروران .
قوله تعالى : فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن قيل : قال لها ذلك العزيز عند قولها : ما جزاء من أراد بأهلك سوءا . وقيل : قاله لها الشاهد . والكيد : المكر والحيلة ، وقد تقدم في [ الأنفال ]
إن كيدكن عظيم وإنما قال عظيم لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من ورطتهن . وقال مقاتل عن عن يحيى بن أبي كثير قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبي هريرة إن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لأن الله تعالى يقول : إن كيد الشيطان كان ضعيفا وقال : إن كيدكن عظيم .
[ ص: 154 ] قوله تعالى : يوسف أعرض عن هذا القائل هذا هو الشاهد . و " يوسف " نداء مفرد ، أي يا يوسف ، فحذف .
أعرض عن هذا أي لا تذكره لأحد واكتمه .
ثم أقبل عليها فقال : وأنت استغفري لذنبك يقول : استغفري زوجك من ذنبك لا يعاقبك .
إنك كنت من الخاطئين ولم يقل من الخاطئات لأنه قصد الإخبار عن المذكر والمؤنث ، فغلب المذكر ; والمعنى : من الناس الخاطئين ، أو من القوم الخاطئين ; مثل : إنها كانت من قوم كافرين وكانت من القانتين . وقيل : إن القائل ليوسف " أعرض ولها استغفري " زوجها الملك ; وفيه قولان : أحدهما : أنه لم يكن غيورا ; فلذلك ، كان ساكنا . وعدم الغيرة في كثير من أهل مصر موجود . الثاني : أن الله تعالى سلبه الغيرة وكان فيه لطف بيوسف حتى كفي بادرته وعفا عنها .