قوله تعالى : ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون قوله تعالى : ودخل معه السجن فتيان " فتيان " تثنية فتى ; وهو من ذوات الياء ، وقولهم : الفتو شاذ . قال وهب وغيره : حمل يوسف إلى السجن مقيدا على حمار ، وطيف به " هذا جزاء من يعصي سيدته " وهو يقول : هذا أيسر من مقطعات النيران ، وسرابيل القطران ، وشراب الحميم ، وأكل الزقوم . فلما انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوما قد انقطع رجاؤهم ، واشتد بلاؤهم ; فجعل يقول لهم : اصبروا وأبشروا تؤجروا ; فقالوا له : يا فتى ! ما أحسن حديثك ! لقد بورك لنا في جوارك ، من أنت يا فتى ؟ قال : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب ، ابن ذبيح الله إسحاق ، ابن خليل الله إبراهيم . وقال ابن عباس : لما قالت المرأة لزوجها إن هذا العبد العبراني قد فضحني ، وأنا أريد أن تسجنه ، فسجنه في السجن ; فكان [ ص: 165 ] يعزي فيه الحزين ، ويعود فيه المريض ، ويداوي فيه الجريح ، ويصلي الليل كله ، ويبكي حتى تبكي معه جدر البيوت وسقفها والأبواب ، وطهر به السجن ، واستأنس به أهل السجن ; فكان إذا خرج الرجل من السجن رجع حتى يجلس في السجن مع يوسف ، وأحبه صاحب السجن فوسع عليه فيه ; ثم قال له : يا يوسف ! لقد أحببتك حبا لم أحب شيئا حبك ; فقال : أعوذ بالله من حبك ، قال : ولم ذلك ؟ فقال : أحبني أبي ففعل بي إخوتي ما فعلوه ، وأحبتني سيدتي فنزل بي ما ترى ، فكان في حبسه حتى غضب الملك على خبازه وصاحب شرابه ، وذلك أن الملك عمر فيهم فملوه ، فدسوا إلى خبازه وصاحب شرابه أن يسماه جميعا ، فأجاب الخباز وأبى صاحب الشراب ، فانطلق صاحب الشراب فأخبر الملك بذلك ، فأمر الملك بحبسهما ، فاستأنسا بيوسف ، فذلك قوله : ودخل معه السجن فتيان وقد قيل : إن الخباز وضع السم في الطعام ، فلما حضر الطعام قال الساقي : أيها الملك ! لا تأكل فإن الطعام مسموم . وقال الخباز : أيها الملك لا تشرب ! فإن الشراب مسموم ; فقال الملك للساقي : اشرب ! فشرب فلم يضره ، وقال للخباز : كل ; فأبى ، فجرب الطعام على حيوان فنفق مكانه ، فحبسهما سنة ، وبقيا في السجن تلك المدة مع يوسف . واسم الساقي منجا ، والآخر مجلث ; ذكره الثعلبي عن كعب . وقال النقاش : اسم أحدهما شرهم ، والآخر سرهم ; الأول ، بالشين المعجمة . والآخر بالسين المهملة . وقال الطبري : الذي رأى أنه يعصر خمرا هو نبو ، قال السهيلي : وذكر اسم الآخر ولم أقيده . وقال فتيان لأنهما كانا عبدين ، والعبد يسمى فتى ، صغيرا كان أو كبيرا ; ذكره . وقال الماوردي القشيري : ولعل الفتى كان اسما للعبد في عرفهم ; ولهذا قال : تراود فتاها عن نفسه . ويحتمل أن يكون الفتى اسما للخادم وإن لم يكن مملوكا . ويمكن أن يكون حبسهما مع حبس يوسف أو بعده أو قبله ، غير أنهما دخلا معه البيت الذي كان فيه .
قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا أي عنبا ; كان يوسف قال لأهل السجن : إني أعبر الأحلام ; فقال أحد الفتيين لصاحبه : تعال حتى نجرب هذا العبد العبراني ; فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئا ; قاله ابن مسعود . وحكى الطبري أنهما سألاه عن علمه فقال : إني أعبر الرؤيا ; فسألاه عن رؤياهما . قال ابن عباس ومجاهد : كانت رؤيا صدق رأياها وسألاه عنها ; ولذلك صدق تأويلها . وفي الصحيح عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أبي هريرة . وقيل : إنها كانت رؤيا كذب سألاه عنها تجريبا ; وهذا قول أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثا ابن مسعود . وقيل : إن المصلوب منهما كان كاذبا ، والآخر صادقا ; قاله والسدي أبو مجلز . وروى الترمذي عن ابن عباس عن [ ص: 166 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال : . قال من تحلم كاذبا كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين ولن يعقد بينهما أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح وعن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . قال : حديث حسن . قال من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة ابن عباس : لما رأيا رؤياهما أصبحا مكروبين ; فقال لهما يوسف : ما لي أراكما مكروبين ؟ قالا : يا سيدنا ! إنا رأينا ما كرهنا ; قال : فقصا علي ، فقصا عليه ; قالا : نبئنا بتأويل ما رأينا ; وهذا يدل على أنها كانت رؤيا منام إنا نراك من المحسنين فإحسانه ، أنه كان يعود المرضى ويداويهم ، ويعزي الحزانى ; قال الضحاك : كان إذا مرض الرجل من أهل السجن قام به ، وإذا ضاق وسع له ، وإذا احتاج جمع له ، وسأل له . وقيل : من المحسنين أي العالمين الذين أحسنوا العلم ، قاله الفراء . وقال ابن إسحاق : من المحسنين لنا إن فسرته ، كما يقول : افعل كذا وأنت محسن .
. قال : فما رأيتما ؟ قال الخباز : رأيت كأني اختبزت في ثلاثة تنانير ، وجعلته في ثلاث سلال ، فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منه . وقال الآخر : رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض ، فعصرتهن في ثلاث أوان ، ثم صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى ، فذلك قوله : إني أراني أعصر خمرا أي عنبا ، بلغة عمان ، قاله الضحاك . وقرأ ابن مسعود : " إني أراني أعصر عنبا " . وقال الأصمعي : أخبرني المعتمر بن سليمان أنه لقي أعرابيا ومعه عنب فقال له : ما معك ؟ قال : خمر . وقيل : معنى . أعصر خمرا أي عنب خمر ، فحذف المضاف . ويقال : خمرة وخمر وخمور ، مثل تمرة وتمر وتمور .
قال لهما يوسف : لا يأتيكما طعام ترزقانه يعني لا يجيئكما غدا طعام من منزلكما
إلا نبأتكما بتأويله لتعلما أني أعلم تأويل رؤياكما ، فقالا : افعل ! فقال لهما : يجيئكما كذا وكذا ، فكان على ما قال .
ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون وكان هذا من علم الغيب خص به يوسف . وبين أن الله خصه بهذا العلم لأنه ترك ملة قوم لا يؤمنون بالله ، يعني دين الملك . ومعنى الكلام عندي : العلم بتأويل رؤياكما ، والعلم بما يأتيكما من طعامكما والعلم بدين الله ، فاسمعوا أولا ما يتعلق بالدين لتهتدوا ، ولهذا لم يعبر لهما حتى دعاهما إلى الإسلام ، فقال : يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون الآية كلها ، على ما يأتي . وقيل : علم أن أحدهما مقتول فدعاهما إلى الإسلام ليسعدا به . [ ص: 167 ] وقيل : إن يوسف كره أن يعبر لهما ما سألاه لما علمه من المكروه على أحدهما فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره فقال : لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم إلا نبأتكما بتفسيره في اليقظة ، قاله ، فقالا له : هذا من فعل العرافين والكهنة ، فقال لهما السدي يوسف - عليه السلام - : ما أنا بكاهن ، وإنما ذلك مما علمنيه ربي ، إني لا أخبركما به تكهنا وتنجيما ، بل هو بوحي من الله - عز وجل - . وقال : كان الملك إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما معروفا فأرسل به إليه ، فالمعنى : لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة ، فعلى هذا ترزقانه أي يجري عليكما من جهة الملك أو غيره . ويحتمل يرزقكما الله . قال ابن جريج الحسن : كان يخبرهما بما غاب ، كعيسى - عليه السلام - . وقيل : إنما دعاهما بذلك إلى الإسلام ; وجعل المعجزة التي يستدلان بها إخبارهما بالغيوب .
واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب لأنهم أنبياء على الحق . قوله تعالى :
" ما كان " أي ما ينبغي .
لنا أن نشرك بالله من شيء " من " للتأكيد ، كقولك : ما جاءني من أحد .
ذلك من فضل الله علينا إشارة إلى عصمته من الزنا .
" وعلى الناس " أي على المؤمنين الذين عصمهم الله من الشرك . وقيل : ذلك من فضل الله علينا إذ جعلنا أنبياء ، وعلى الناس إذ جعلنا الرسل إليهم .
ولكن أكثر الناس لا يشكرون على نعمة التوحيد والإيمان .