قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء أي ومثل هذا الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبه إلى قلب الملك ، وإنجائه من السجن مكنا له في الأرض ; أي أقدرناه على ما يريد . وقال
إلكيا الطبري قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وكذلك مكنا ليوسف في الأرض دليل على إجازة
nindex.php?page=treesubj&link=28202الحيلة في التوصل إلى المباح ، وما فيه الغبطة والصلاح ، واستخراج
[ ص: 190 ] الحقوق ، ومثله قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وحديث
nindex.php?page=showalam&ids=44أبي سعيد الخدري في عامل
خيبر ، والذي أداه من التمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما قاله . قلت : وهذا مردود على ما يأتي . يقال : مكناه ومكنا له ، قال الله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم . قال
الطبري : استخلف
الملك الأكبر الوليد بن الريان يوسف على عمل
إطفير وعزله ; قال
مجاهد : وأسلم على يديه . قال
ابن عباس : ملكه بعد سنة ونصف . وروى
مقاتل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
لو أن يوسف قال إني حفيظ عليم إن شاء الله لملك في وقته . ثم مات
إطفير فزوجه
الوليد بزوجة إطفير راعيل ، فدخل بها
يوسف فوجدها عذراء ، وولدت له ولدين :
إفراثيم ومنشا ، ابني
يوسف ، ومن زعم أنها
زليخاء قال : لم يتزوجها
يوسف ، وأنها لما رأته في موكبه بكت ، ثم قالت : الحمد لله الذي جعل الملوك عبيدا بالمعصية ، والحمد لله الذي جعل العبيد بالطاعة ملوكا ، فضمها إليه ، فكانت من عياله حتى ماتت عنده ، ولم يتزوجها ; ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي ; وهو خلاف ما تقدم عن
وهب ، وذكره
الثعلبي ; فالله أعلم . ولما فوض الملك أمر
مصر إلى
يوسف تلطف بالناس ، وجعل يدعوهم إلى الإسلام حتى آمنوا به ، وأقام فيهم العدل ، فأحبه الرجال والنساء ، قال
وهب nindex.php?page=showalam&ids=14468والسدي nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس وغيرهم : ثم دخلت السنون المخصبة ، فأمر
يوسف بإصلاح المزارع ، وأمرهم أن يتوسعوا في الزراعة ، فلما أدركت الغلة أمر بها فجمعت ، ثم بنى لها الأهراء ، فجمعت فيها في تلك السنة غلة ضاقت عنها المخازن لكثرتها ، ثم جمع عليه غلة كل سنة كذلك ، حتى إذا انقضت السبع المخصبة وجاءت السنون المجدبة نزل
جبريل وقال : يا
أهل مصر جوعوا ; فإن الله سلط عليكم الجوع سبع سنين . وقال بعض أهل الحكمة : للجوع والقحط علامتان : إحداهما : أن النفس تحب الطعام أكثر من العادة ، ويسرع إليها الجوع خلاف ما كانت عليه قبل ذلك ، وتأخذ من الطعام فوق الكفاية . والثانية : أن يفقد الطعام فلا يوجد رأسا ويعز إلى الغاية ، فاجتمعت هاتان العلامتان في عهد
يوسف ، فانتبه الرجال والنساء والصبيان ينادون الجوع الجوع !!
[ ص: 191 ] ويأكلون ولا يشبعون ، وانتبه الملك ، ينادي الجوع الجوع !! قال : فدعا له
يوسف فأبرأه الله من ذلك ، ثم أصبح فنادى
يوسف في أرض
مصر كلها ; معاشر الناس ! لا يزرع أحد زرعا فيضيع البذر ولا يطلع شيء . وجاءت تلك السنون بهول عظيم لا يوصف ; قال
ابن عباس : لما كان ابتداء القحط بينا الملك في جوف الليل أصابه الجوع في نصف الليل ، فهتف الملك يا
يوسف ! الجوع الجوع !! فقال
يوسف : هذا أوان القحط ; فلما دخلت أول سنة من سني القحط هلك فيها كل شيء أعدوه في السنين المخصبة ، فجعل
أهل مصر يبتاعون الطعام من
يوسف ; فباعهم أول سنة بالنقود ، حتى لم يبق
بمصر دينار ولا درهم إلا قبضه ; وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر ، حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ; وباعهم في السنة الثالثة بالمواشي والدواب ، حتى احتوى عليها أجمع ، وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والإماء ، حتى احتوى على الكل ; وباعهم في السنة الخامسة بالعقار والضياع ، حتى ملكها كلها ; وباعهم في السنة السادسة بأولادهم ونسائهم فاسترقهم جميعا وباعهم في السنة السابعة برقابهم ، حتى لم يبق في السنة السابعة
بمصر حر ولا عبد إلا صار عبدا له ; فقال الناس : والله ما رأينا ملكا أجل ولا أعظم من هذا ; فقال
يوسف لملك
مصر : كيف رأيت صنع ربي فيما خولني ! والآن كل هذا لك ، فما ترى فيه ؟ فقال : فوضت إليك الأمر فافعل ما شئت ، وإنما نحن لك تبع ; وما أنا بالذي يستنكف عن عبادتك وطاعتك ، ولا أنا إلا من بعض مماليكك ، وخول من خولك ; فقال
يوسف - عليه السلام - : إني لم أعتقهم من الجوع لأستعبدهم ، ولم أجرهم من البلاء لأكون عليهم بلاء ; وإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت
أهل مصر عن آخرهم ، ورددت عليهم أموالهم وأملاكهم ، ورددت عليك ملكك بشرط أن تستن بسنتي . ويروى أن
يوسف - عليه السلام - كان لا يشبع من طعام في تلك السنين ، فقيل له : أتجوع وبيدك خزائن الأرض ؟ فقال : إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع ; وأمر
يوسف طباخ الملك أن يجعل غذاءه نصف النهار ، حتى يذوق الملك طعم الجوع . فلا ينسى الجائعين ; فمن ثم جعل الملوك غذاءهم نصف النهار .
قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56نصيب برحمتنا من نشاء أي بإحساننا ; والرحمة النعمة والإحسان .
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56ولا نضيع أجر المحسنين أي ثوابهم . وقال
ابن عباس ووهب : يعني الصابرين ; لصبره في الجب ، وفي الرق ، وفي السجن ، وصبره عن محارم الله عما دعته إليه المرأة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15151الماوردي : واختلف فيما أوتيه
يوسف من هذه الحال على قولين : أحدهما : أنه ثواب من الله تعالى على ما ابتلاه . الثاني : أنه أنعم الله عليه بذلك تفضلا منه عليه ، وثوابه باق على حاله في الآخرة .
[ ص: 192 ] قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=57ولأجر الآخرة خير أي ما نعطيه في الآخرة خير وأكثر مما أعطيناه في الدنيا ; لأن أجر الآخرة دائم ، وأجر الدنيا ينقطع ; وظاهر الآية العموم في كل مؤمن متق ; وأنشدوا :
أما في رسول الله يوسف أسوة لمثلك محبوسا على الظلم والإفك أقام جميل الصبر في الحبس برهة
فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له :
وراء مضيق الخوف متسع الأمن وأول مفروح به آخر الحزن
فلا تيأسن فالله ملك يوسفا خزائنه بعد الخلاص من السجن
وأنشد بعضهم :
إذا الحادثات بلغن النهى وكادت تذوب لهن المهج
وحل البلاء وقل العزاء فعند التناهي يكون الفرج
والشعر في هذا المعنى كثير .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ أَيْ وَمِثْلُ هَذَا الْإِنْعَامِ الَّذِي أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ فِي تَقْرِيبِهِ إِلَى قَلْبِ الْمَلِكِ ، وَإِنْجَائِهِ مِنَ السِّجْنِ مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ; أَيْ أَقَدَرْنَاهُ عَلَى مَا يُرِيدُ . وَقَالَ
إِلْكِيَا الطَّبَرِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ دَلِيلٌ عَلَى إِجَازَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=28202الْحِيلَةِ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى الْمُبَاحِ ، وَمَا فِيهِ الْغِبْطَةُ وَالصَّلَاحُ ، وَاسْتِخْرَاجُ
[ ص: 190 ] الْحُقُوقِ ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=38&ayano=44وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ وَحَدِيثُ
nindex.php?page=showalam&ids=44أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي عَامِلِ
خَيْبَرَ ، وَالَّذِي أَدَّاهُ مِنَ التَّمْرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا قَالَهُ . قُلْتُ : وَهَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَا يَأْتِي . يُقَالُ : مَكَّنَّاهُ وَمَكَّنَّا لَهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=6مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ . قَالَ
الطَّبَرِيُّ : اسْتَخْلَفَ
الْمَلِكُ الْأَكْبَرُ الْوَلِيدُ بْنُ الرَّيَّانِ يُوسُفَ عَلَى عَمَلِ
إِطْفِيرَ وَعَزَلَهُ ; قَالَ
مُجَاهِدٌ : وَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ . قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : مَلَّكَهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَنِصْفٍ . وَرَوَى
مُقَاتِلٌ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
لَوْ أَنَّ يُوسُفُ قَالَ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُلِّكَ فِي وَقْتِهِ . ثُمَّ مَاتَ
إِطْفِيرُ فَزَوَّجَهُ
الْوَلِيدُ بِزَوْجَةِ إِطْفِيرَ رَاعِيلَ ، فَدَخَلَ بِهَا
يُوسُفُ فَوَجَدَهَا عَذْرَاءَ ، وَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدَيْنِ :
إِفْرَاثِيمَ ومنشا ، ابْنَيْ
يُوسُفَ ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهَا
زَلِيخَاءُ قَالَ : لَمْ يَتَزَوَّجْهَا
يُوسُفُ ، وَأَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ فِي مَوْكِبِهِ بَكَتْ ، ثُمَّ قَالَتِ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْمُلُوكَ عَبِيدًا بِالْمَعْصِيَةِ ، وَالْحَمْدِ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْعَبِيدَ بِالطَّاعَةِ مُلُوكًا ، فَضَمَّهَا إِلَيْهِ ، فَكَانَتْ مِنْ عِيَالِهِ حَتَّى مَاتَتْ عِنْدَهُ ، وَلَمْ يَتَزَوَّجْهَا ; ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=15151الْمَاوَرْدِيُّ ; وَهُوَ خِلَافُ مَا تَقَدَّمَ عَنْ
وَهْبٍ ، وَذَكَرَهُ
الثَّعْلَبِيُّ ; فَاللَّهُ أَعْلَمُ . وَلَمَّا فَوَّضَ الْمَلِكُ أَمْرَ
مِصْرَ إِلَى
يُوسُفَ تَلَطَّفَ بِالنَّاسِ ، وَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى آمَنُوا بِهِ ، وَأَقَامَ فِيهِمُ الْعَدْلَ ، فَأَحَبَّهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، قَالَ
وَهْبٌ nindex.php?page=showalam&ids=14468وَالسُّدِّيُّ nindex.php?page=showalam&ids=11وَابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُمْ : ثُمَّ دَخَلَتِ السُّنُونَ الْمُخْصِبَةُ ، فَأَمَرَ
يُوسُفُ بِإِصْلَاحِ الْمَزَارِعِ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَوَسَّعُوا فِي الزِّرَاعَةِ ، فَلَمَّا أَدْرَكَتِ الْغَلَّةُ أَمَرَ بِهَا فَجُمِعَتْ ، ثُمَّ بَنَى لَهَا الْأَهْرَاءَ ، فَجُمِعَتْ فِيهَا فِي تِلْكَ السَّنَةِ غَلَّةٌ ضَاقَتْ عَنْهَا الْمَخَازِنُ لِكَثْرَتِهَا ، ثُمَّ جَمَعَ عَلَيْهِ غَلَّةَ كُلِّ سَنَةٍ كَذَلِكَ ، حَتَّى إِذَا انْقَضَتِ السَّبْعُ الْمُخْصِبَةُ وَجَاءَتِ السُّنُونَ الْمُجْدِبَةُ نَزَلَ
جِبْرِيلُ وَقَالَ : يَا
أَهْلَ مِصْرَ جُوعُوا ; فَإِنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْكُمُ الْجُوعَ سَبْعَ سِنِينَ . وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْحِكْمَةِ : لِلْجُوعِ وَالْقَحْطِ عَلَامَتَانِ : إِحْدَاهُمَا : أَنَّ النَّفْسَ تُحِبُّ الطَّعَامَ أَكْثَرُ مِنَ الْعَادَةِ ، وَيُسْرِعُ إِلَيْهَا الْجُوعُ خِلَافَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَتَأْخُذُ مِنَ الطَّعَامِ فَوْقَ الْكِفَايَةِ . وَالثَّانِيَةُ : أَنْ يُفْقَدَ الطَّعَامُ فَلَا يُوجَدُ رَأْسًا وَيَعِزُّ إِلَى الْغَايَةِ ، فَاجْتَمَعَتْ هَاتَانِ الْعَلَامَتَانِ فِي عَهْدِ
يُوسُفَ ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ يُنَادُونَ الْجُوعَ الْجُوعَ !!
[ ص: 191 ] وَيَأْكُلُونَ وَلَا يَشْبَعُونَ ، وَانْتَبَهَ الْمَلِكُ ، يُنَادِي الْجُوعَ الْجُوعَ !! قَالَ : فَدَعَا لَهُ
يُوسُفُ فَأَبْرَأَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَصْبَحَ فَنَادَى
يُوسُفُ فِي أَرْضِ
مِصْرَ كُلِّهَا ; مَعَاشِرَ النَّاسِ ! لَا يَزْرَعُ أَحَدٌ زَرْعًا فَيَضِيعُ الْبَذْرُ وَلَا يَطْلُعُ شَيْءٌ . وَجَاءَتْ تِلْكَ السُّنُونَ بِهَوْلٍ عَظِيمٍ لَا يُوصَفُ ; قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ : لَمَّا كَانَ ابْتِدَاءُ الْقَحْطِ بَيْنَا الْمَلِكُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ أَصَابَهُ الْجُوعُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ ، فَهَتَفَ الْمَلِكُ يَا
يُوسُفُ ! الْجُوعَ الْجُوعَ !! فَقَالَ
يُوسُفُ : هَذَا أَوَانُ الْقَحْطِ ; فَلَمَّا دَخَلَتْ أَوَّلُ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الْقَحْطِ هَلَكَ فِيهَا كُلُّ شَيْءٍ أَعَدُّوهُ فِي السِّنِينَ الْمُخْصِبَةِ ، فَجَعَلَ
أَهْلُ مِصْرَ يَبْتَاعُونَ الطَّعَامَ مِنْ
يُوسُفَ ; فَبَاعَهُمْ أَوَّلَ سَنَةٍ بِالنُّقُودِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ
بِمِصْرَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِلَّا قَبَضَهُ ; وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بِالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي أَيْدِي النَّاسِ مِنْهَا شَيْءٌ ; وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ بِالْمَوَاشِي وَالدَّوَابِّ ، حَتَّى احْتَوَى عَلَيْهَا أَجْمَعَ ، وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ بِالْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ ، حَتَّى احْتَوَى عَلَى الْكُلِّ ; وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ بِالْعَقَارِ وَالضَّيَاعِ ، حَتَّى مَلَكَهَا كُلَّهَا ; وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ بِأَوْلَادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَاسْتَرَقَّهُمْ جَمِيعًا وَبَاعَهُمْ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ بِرِقَابِهِمْ ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِي السَّنَةِ السَّابِعَةِ
بِمِصْرَ حُرٌّ وَلَا عَبْدٌ إِلَّا صَارَ عَبْدًا لَهُ ; فَقَالَ النَّاسُ : وَاللَّهُ مَا رَأَيْنَا مَلِكًا أَجَلَّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ هَذَا ; فَقَالَ
يُوسُفُ لِمَلِكِ
مِصْرَ : كَيْفَ رَأَيْتَ صُنْعَ رَبِّي فِيمَا خَوَّلَنِي ! وَالْآنَ كُلُّ هَذَا لَكَ ، فَمَا تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ : فَوَّضْتُ إِلَيْكَ الْأَمْرَ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ ، وَإِنَّمَا نَحْنُ لَكَ تَبَعٌ ; وَمَا أَنَا بِالَّذِي يَسْتَنْكِفُ عَنْ عِبَادَتِكَ وَطَاعَتِكَ ، وَلَا أَنَا إِلَّا مِنْ بَعْضِ مَمَالِيكِكَ ، وَخَوَلٌ مِنْ خَوَلِكَ ; فَقَالَ
يُوسُفُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : إِنِّي لَمْ أُعْتِقْهُمْ مِنَ الْجُوعِ لِأَسْتَعْبِدَهُمْ ، وَلَمْ أُجِرْهُمْ مِنَ الْبَلَاءِ لِأَكُونَ عَلَيْهِمْ بَلَاءً ; وَإِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَأُشْهِدُكَ أَنِّي أَعْتَقْتُ
أَهْلَ مِصْرَ عَنْ آخِرِهِمْ ، وَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَأَمْلَاكَهُمْ ، وَرَدَدْتُ عَلَيْكَ مُلْكَكَ بِشَرْطِ أَنْ تَسْتَنَّ بِسُنَّتِي . وَيُرْوَى أَنَّ
يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ طَعَامٍ فِي تِلْكَ السِّنِينَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَتَجُوعُ وَبِيَدِكَ خَزَائِنُ الْأَرْضِ ؟ فَقَالَ : إِنِّي أَخَافُ إِنْ شَبِعْتُ أَنْ أَنْسَى الْجَائِعَ ; وَأَمَرَ
يُوسُفُ طَبَّاخَ الْمَلِكِ أَنْ يَجْعَلَ غِذَاءَهُ نِصْفَ النَّهَارِ ، حَتَّى يَذُوقَ الْمَلِكُ طَعْمَ الْجُوعِ . فَلَا يَنْسَى الْجَائِعِينَ ; فَمِنْ ثَمَّ جَعَلَ الْمُلُوكُ غِذَاءَهُمْ نِصْفَ النَّهَارِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ أَيْ بِإِحْسَانِنَا ; وَالرَّحْمَةُ النِّعْمَةُ وَالْإِحْسَانُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=56وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أَيْ ثَوَابَهُمْ . وَقَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبٌ : يَعْنِي الصَّابِرِينَ ; لِصَبْرِهِ فِي الْجُبِّ ، وَفِي الرِّقِّ ، وَفِي السِّجْنِ ، وَصَبْرِهِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ عَمَّا دَعَتْهُ إِلَيْهِ الْمَرْأَةُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15151الْمَاوَرْدِيُّ : وَاخْتُلِفَ فِيمَا أُوتِيَهُ
يُوسُفُ مِنْ هَذِهِ الْحَالِ عَلَى قَوْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ ثَوَابٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا ابْتَلَاهُ . الثَّانِي : أَنَّهُ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ تَفَضُّلًا مِنْهُ عَلَيْهِ ، وَثَوَابُهُ بَاقٍ عَلَى حَالِهِ فِي الْآخِرَةِ .
[ ص: 192 ] قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=57وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ أَيْ مَا نُعْطِيهِ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَأَكْثَرُ مِمَّا أَعْطَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ دَائِمٌ ، وَأَجْرُ الدُّنْيَا يَنْقَطِعُ ; وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ ; وَأَنْشَدُوا :
أَمَا فِي رَسُولِ اللَّهِ يُوسُفَ أُسْوَةٌ لِمِثْلِكَ مَحْبُوسًا عَلَى الظُّلْمِ وَالْإِفْكِ أَقَامَ جَمِيلَ الصَّبْرِ فِي الْحَبْسِ بُرْهَةً
فَآلَ بِهِ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ إِلَى الْمُلْكِ
وَكَتَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى صَدِيقٍ لَهُ :
وَرَاءَ مَضِيقِ الْخَوْفِ مُتَّسَعُ الْأَمْنِ وَأَوَّلُ مَفْرُوحٍ بِهِ آخِرُ الْحُزْنِ
فَلَا تَيْأَسَنْ فَاللَّهُ مَلَّكَ يُوسُفَا خَزَائِنَهُ بَعْدَ الْخَلَاصِ مِنَ السِّجْنِ
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ :
إِذَا الْحَادِثَاتُ بَلَغْنَ النُّهَى وَكَادَتْ تَذُوبُ لَهُنَّ الْمُهَجُ
وَحَلَ الْبَلَاءُ وَقَلَّ الْعَزَاءُ فَعِنْدَ التَّنَاهِي يَكُونُ الْفَرَجُ
وَالشِّعْرُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ .