قوله تعالى : ورفع أبويه على العرش قال قتادة : يريد السرير ، وقد تقدمت محامله ; وقد يعبر بالعرش عن الملك والملك نفسه ; ومنه قول النابغة الذبياني :
عروش تفانوا بعد عز وأمنة
وقد تقدم .قوله تعالى : وخروا له سجدا فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وخروا له سجدا الهاء في " خروا له " قيل : إنها تعود على الله تعالى ; المعنى : وخروا شكرا لله سجدا ; ويوسف كالقبلة لتحقيق رؤياه ، وروي عن الحسن ; قال النقاش : وهذا خطأ ; والهاء راجعة إلى يوسف لقوله تعالى في أول السورة : رأيتهم لي ساجدين . وكان تحيتهم أن يسجد الوضيع للشريف ، والصغير للكبير ; سجد يعقوب وخالته وإخوته ليوسف - عليه السلام - فاقشعر جلده وقال : هذا تأويل رؤياي من قبل وكان بين رؤيا يوسف وبين تأويلها اثنتان وعشرون سنة . وقال سلمان الفارسي : أربعون سنة ; قال وعبد الله بن شداد : وذلك آخر ما تبطئ الرؤيا . وقال عبد الله بن شداد قتادة : خمس وثلاثون سنة . وقال السدي وسعيد بن جبير وعكرمة : ست وثلاثون سنة . وقال الحسن وجسر بن فرقد [ ص: 231 ] : ثمانون سنة . وقال وفضيل بن عياض : ألقي وهب بن منبه يوسف في الجب وهو ابن سبع عشرة سنة ، وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد أن التقى بأبيه ثلاثا وعشرين سنة ، ومات وهو ابن مائة وعشرين سنة . وفي التوراة مائة وست وعشرون سنة . وولد ليوسف من امرأة العزيز إفراثيم ومنشا ورحمة امرأة أيوب . وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة . وقيل : إن يعقوب بقي عند يوسف عشرين سنة ، ثم توفي - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : أقام عنده ثماني عشرة سنة . وقال بعض المحدثين : بضعا وأربعين سنة ; وكان بين يعقوب ويوسف ثلاث وثلاثون سنة حتى جمعهم الله . وقال ابن إسحاق : ثماني عشرة سنة ، والله أعلم .
الثانية : قال سعيد بن جبير عن قتادة عن الحسن : في قوله : وخروا له سجدا - قال : لم يكن سجودا ، لكنه سنة كانت فيهم ، يومئون برءوسهم إيماء ، كذلك كانت تحيتهم . وقال الثوري والضحاك وغيرهما : كان سجودا كالسجود المعهود عندنا ، وهو كان تحيتهم . وقيل : كان انحناء كالركوع ، ولم يكن خرورا على الأرض ، وهكذا كان سلامهم بالتكفي والانحناء ، وقد نسخ الله ذلك كله في شرعنا ، وجعل الكلام بدلا عن الانحناء . وأجمع المفسرون أن ذلك السجود على أي وجه كان فإنما كان تحية لا عبادة ; قال قتادة : هذه كانت تحية الملوك عندهم ; وأعطى الله هذه الأمة السلام تحية أهل الجنة .
قلت : هذا الانحناء والتكفي الذي نسخ عنا قد صار عادة بالديار المصرية ، وعند العجم ، وكذلك قيام بعضهم إلى بعض ; حتى إن أحدهم إذا لم يقم له وجد في نفسه كأنه لا يؤبه به ، وأنه لا قدر له ; وكذلك إذا التقوا انحنى بعضهم لبعض ، عادة مستمرة ، ووراثة مستقرة لا سيما عند التقاء الأمراء والرؤساء نكبوا عن السنن ، وأعرضوا عن السنن . وروى أنس بن مالك قال : . خرجه قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا إلى بعض إذا التقينا ؟ قال : لا ; قلنا : أفيعتنق بعضنا بعضا ؟ قال لا . قلنا : أفيصافح بعضنا بعضا ؟ قال نعم أبو عمر في " التمهيد " فإن قيل : فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : - يعني قوموا إلى سيدكم وخيركم - قلنا : ذلك مخصوص سعد بن معاذ بسعد لما تقتضيه الحال المعينة ; وقد قيل : إنما كان قيامهم لينزلوه عن الحمار ; وأيضا فإنه يجوز للرجل الكبير إذا لم يؤثر ذلك في نفسه ، فإن أثر فيه وأعجب به ورأى لنفسه حظا لم يجز عونه على ذلك ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - : . وجاء عن الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - أنه لم يكن وجه أكرم عليهم من وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما كانوا يقومون له إذا رأوه ، لما يعرفون من كراهته لذلك . من سره أن يتمثل له الناس قياما فليتبوأ مقعده [ ص: 232 ] من النار
الثالثة : فإن قيل : فما تقول في قيل له : ذلك جائز إذا بعد عنك ، لتعين له به وقت السلام ، فإن كان دانيا فلا ; وقد قيل بالمنع في القرب والبعد ; لما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الإشارة بالإصبع ؟ . وقال : من تشبه بغيرنا فليس منا اليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالأكف والنصارى بالإشارة . وإذا سلم فإنه لا ينحني ، ولا أن يقبل مع السلام يده ، ولأن الانحناء على معنى التواضع لا ينبغي إلا لله . وأما لا تسلموا تسليم فإنه من فعل الأعاجم ، ولا يتبعون على أفعالهم التي أحدثوها تعظيما منهم لكبرائهم ; قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : تقبيل اليد لا تقوموا عند رأسي كما تقوم الأعاجم عند رءوس أكاسرتها فهذا مثله . ولا بأس بالمصافحة ; فقد صافح النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم من جعفر بن أبي طالب الحبشة ، وأمر بها ، وندب إليها ، وقال : وروى تصافحوا يذهب الغل غالب التمار عن الشعبي أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا إذا التقوا تصافحوا ، وإذا قدموا من سفر تعانقوا ; فإن قيل : فقد كره مالك المصافحة ؟ قلنا : روى ابن وهب عن مالك أنه كره ، وذهب إلى هذا المصافحة والمعانقة سحنون وغيره من أصحابنا ; وقد روي عن مالك خلاف ذلك من جواز المصافحة ، وهو الذي يدل عليه معنى ما في الموطأ ; وعلى جواز المصافحة جماعة العلماء من السلف والخلف . قال : إنما كره ابن العربي مالك المصافحة لأنه لم يرها أمرا عاما في الدين ، ولا منقولا نقل السلام ; ولو كانت منه لاستوى معه
[ ص: 233 ] قلت : قد جاء في المصافحة حديث يدل على الترغيب فيها ، والدأب عليها والمحافظة ; وهو ما رواه قال : البراء بن عازب . لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فقلت : يا رسول الله ! إن كنت لأحسب أن المصافحة للأعاجم ؟ فقال : نحن أحق بالمصافحة منهم ما من مسلمين يلتقيان فيأخذ أحدهما بيد صاحبه مودة بينهما ونصيحة إلا ألقيت ذنوبهما بينهما
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن ولم يقل من الجب استعمالا للكرم ; لئلا يذكر إخوته صنيعهم بعد عفوه عنهم بقوله : قوله تعالى : لا تثريب عليكم .
قلت : وهذا هو الأصل عند مشايخ الصوفية : ذكر الجفا في وقت الصفا جفا ، وهو قول صحيح دل عليه الكتاب . وقيل : لأن في دخوله السجن كان باختياره بقوله : رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وكان في الجب بإرادة الله تعالى له . وقيل : لأنه كان في السجن مع اللصوص والعصاة ، وفي الجب مع الله تعالى ; وأيضا فإن المنة في النجاة من السجن كانت أكبر ، لأنه دخله بسبب أمر هم به ; وأيضا دخله باختياره إذ قال : رب السجن أحب إلي فكان الكرب فيه أكثر ; وقال فيه أيضا : اذكرني عند ربك فعوقب فيه .
وجاء بكم من البدو يروى أن مسكن يعقوب كان بأرض كنعان ، وكانوا أهل مواش وبرية ; وقيل : كان يعقوب تحول إلى بادية وسكنها ، وأن الله لم يبعث نبيا من أهل البادية . وقيل : إنه كان خرج إلى بدا ، وهو موضع ; وإياه عنى جميل بقوله :
وأنت التي حببت شغبا إلى بدا إلي وأوطاني بلاد سواهما
وليعقوب بهذا الموضع مسجد تحت جبل . يقال : بدا القوم بدوا إذا أتوا بدا ، كما يقال : غاروا غورا أي أتوا الغور ; والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا ; ذكره القشيري ، وحكاه عن الماوردي الضحاك عن ابن عباس .
من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي بإيقاع الحسد ; قاله ابن عباس . وقيل : أفسد ما بيني وبين إخوتي ; أحال ذنبهم على الشيطان تكرما منه .
إن ربي لطيف لما يشاء أي رفيق بعباده . وقال : اللطيف هو البر بعباده الذي [ ص: 234 ] يلطف بهم من حيث لا يعلمون ، ويسبب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون ; كقوله : الخطابي الله لطيف بعباده يرزق من يشاء . وقيل : اللطيف العالم بدقائق الأمور ; والمراد هنا الإكرام والرفق . قال قتادة ، لطف بيوسف بإخراجه من السجن ، وجاءه بأهله من البدو ، ونزع عن قلبه نزغ الشيطان . ويروى أن يعقوب لما قدم بأهله وولده وشارف أرض مصر وبلغ ذلك يوسف استأذن فرعون - واسمه الريان - أن يأذن له في تلقي أبيه يعقوب ; وأخبره بقدومه فأذن له ، وأمر الملأ من أصحابه بالركوب معه ; فخرج يوسف والملك معه في أربعة آلاف من الأمراء مع كل أمير خلق الله أعلم بهم ; وركب أهل مصر معهم يتلقون يعقوب ، فكان يعقوب يمشي متكئا على يد يهوذا ; فنظر يعقوب إلى الخيل والناس والعساكر فقال : يا يهوذا ! هذا فرعون مصر ؟ قال : لا ، بل هذا ابنك يوسف ; فلما دنا كل واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك ، وكان يعقوب أحق بذلك منه وأفضل ; فابتدأ يعقوب بالسلام فقال : السلام عليك يا مذهب الأحزان ، وبكى وبكى معه يوسف ; فبكى يعقوب فرحا ، وبكى يوسف لما رأى بأبيه من الحزن ; قال ابن عباس : فالبكاء أربعة ، بكاء من الخوف ، وبكاء من الجزع ، وبكاء من الفرح ، وبكاء رياء . ثم قال يعقوب : الحمد لله الذي أقر عيني بعد الهموم والأحزان ، ودخل ، مصر في اثنين وثمانين من أهل بيته ; فلم يخرجوا من مصر حتى بلغوا ستمائة ألف ونيف ألف ; وقطعوا البحر مع موسى - عليه السلام - ; رواه عكرمة عن ابن عباس . وحكى ابن مسعود أنهم دخلوا مصر وهم ثلاثة وتسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وخرجوا مع موسى وهم ستمائة ألف وسبعون ألفا . وقال : دخلوها وهم اثنان وسبعون ألفا ، وخرجوا مع الربيع بن خيثم موسى وهم ستمائة ألف . وقال : دخل وهب بن منبه يعقوب وولده مصر وهم تسعون إنسانا ما بين رجل وامرأة وصغير ، وخرجوا منها مع موسى فرارا من فرعون ، وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا مقاتلين ، سوى الذرية . والهرمى والزمنى ; وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف سوى المقاتلة ، وقال أهل التواريخ : أقام يعقوب بمصر أربعا وعشرين سنة في أغبط حال ونعمة ، ومات بمصر ، وأوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق بالشام ففعل ، ثم انصرف إلى مصر . قال سعيد بن جبير : نقل يعقوب - صلى الله عليه وسلم - في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ، ووافق ذلك يوم مات عيصو ، فدفنا في قبر واحد ; فمن ثم تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس ، من فعل ذلك منهم ; وولد يعقوب وعيصو في بطن واحد ، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعا مائة وسبعا وأربعين سنة .