الأولى : قوله تعالى : أقم الصلاة لدلوك الشمس لما ذكر مكايد المشركين أمر نبيه - عليه السلام - بالصبر والمحافظة على الصلاة ، وفيها طلب النصر على الأعداء . ومثله ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين . وتقدم القول في معنى إقامة الصلاة في أول سورة البقرة . وهذه الآية بإجماع من المفسرين إشارة إلى الصلوات المفروضة . واختلف العلماء في الدلوك على قولين : أحدهما - أنه زوال الشمس عن كبد السماء ; قاله عمر وابنه وأبو هريرة وطائفة سواهم من علماء التابعين وغيرهم . الثاني - أن الدلوك هو الغروب ; قاله وابن عباس علي وابن مسعود ، وروي عن وأبي بن كعب ابن عباس . قال : من جعل الدلوك اسما لغروبها فلأن الإنسان يدلك عينيه براحته لتبينها حالة المغيب ، ومن جعله اسما لزوالها فلأنه يدلك عينيه لشدة شعاعها . وقال الماوردي أبو عبيد : دلوكها غروبها . ودلكت براح يعني الشمس ; أي غابت وأنشد قطرب :
هذا مقام قدمي رباح ذبب حتى دلكت براح
براح بفتح الباء على وزن حزام وقطام ورقاش اسم من أسماء الشمس . ورواه الفراء بكسر الباء وهو جمع راحة وهي الكف ; أي غابت وهو ينظر إليها وقد جعل كفه على حاجبه . ومنه قول العجاج :
والشمس قد كادت تكون دنفا أدفعها بالراح كي تزحلفا
قال ابن الأعرابي : الزحلوفة مكان منحدر أملس ، لأنهم يتزحلفون فيه . قال : والزحلفة كالدحرجة والدفع ; يقال : زحلفته فتزحلف . ويقال : دلكت الشمس إذا غابت . قال : ذو الرمة
مصابيح ليست باللواتي تقودها نجوم ولا بالآفلات الدوالك
قال ابن عطية : الدلوك هو الميل - في اللغة - فأول الدلوك هو الزوال وآخره هو الغروب . ومن وقت الزوال إلى الغروب يسمى دلوكا ، لأنها في حالة ميل . فذكر الله - تعالى - الصلوات التي تكون في حالة الدلوك وعنده ; فيدخل في ذلك الظهر والعصر والمغرب ، ويصح أن تكون المغرب داخلة في غسق الليل . وقد ذهب قوم إلى أن ; لأنه سبحانه علق وجوبها على الدلوك ، وهذا دلوك كله ; قاله صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب الأوزاعي في تفصيل . وأشار إليه وأبو حنيفة مالك في حالة الضرورة . والشافعي
[ ص: 273 ] الثانية : قوله تعالى : إلى غسق الليل روى مالك عن ابن عباس قال : دلوك الشمس ميلها ، وغسق الليل اجتماع الليل وظلمته . وقال أبو عبيدة : الغسق سواد الليل . قال ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وقد قيل : غسق الليل مغيب الشفق . وقيل : إقبال ظلمته . قال زهير :
ظلت تجود يدها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
يقال : غسق الليل غسوقا . والغسق اسم بفتح السين . وأصل الكلمة من السيلان ; يقال : غسقت العين إذا سالت ، تغسق . وغسق الجرح غسقانا ، أي سال منه ماء أصفر . وأغسق المؤذن ، أي أخر المغرب إلى غسق الليل . وحكى الفراء : غسق الليل وأغسق ، وظلم وأظلم ، ودجا وأدجى ، وغبس وأغبس ، وغبش وأغبش . وكان الربيع بن خثيم يقول لمؤذنه في يوم غيم : أغسق أغسق . يقول : أخر المغرب حتى يغسق الليل ، وهو إظلامه .
الثالثة : اختلف العلماء في ; فقيل : وقتها وقت واحد لا وقت لها إلا حين تحجب الشمس ، وذلك بين في إمامة آخر وقت المغرب جبريل ; فإنه صلاها باليومين لوقت واحد وذلك غروب الشمس ، وهو الظاهر من مذهب مالك عند أصحابه . وهو أحد قولي في المشهور عنه أيضا وبه قال الشافعي الثوري . وقال مالك في الموطأ : فإذا غاب الشفق فقد خرجت من وقت المغرب ودخل . وبهذا قال وقت العشاء أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن حي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود ; لأن وقت الغروب إلى الشفق غسق كله . ولحديث أبي موسى ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالسائل المغرب في اليوم الثاني فأخر حتى كان عند سقوط الشفق . خرجه مسلم . قالوا : وهذا أولى من أخبار إمامة جبريل ; لأنه متأخر بالمدينة وإمامة جبريل بمكة ، [ ص: 274 ] والمتأخر أولى من فعله وأمره ; لأنه ناسخ لما قبله . وزعم أن هذا القول هو المشهور من مذهب ابن العربي مالك ، وقوله في موطئه الذي أقرأه طول عمره وأملاه في حياته . والنكتة في هذا أن الأحكام المتعلقة بالأسماء هل تتعلق بأوائلها أو بآخرها أو يرتبط الحكم بجميعها ؟ والأقوى في النظر أن يرتبط الحكم بأوائلها لئلا يكون ذكرها لغوا فإذا ارتبط بأوائلها جرى بعد ذلك النظر في تعلقه بالكل إلى الآخر .
قلت : القول بالتوسعة أرجح . وقد خرج الإمام الحافظ من حديث أبو محمد عبد الغني بن سعيد الأجلح بن عبد الله الكندي عن عن أبي الزبير جابر قال : مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى سرف ، وذلك تسعة أميال . وأما القول بالنسخ فليس بالبين وإن كان التاريخ معلوما ; فإن الجمع ممكن . قال علماؤنا : تحمل أحاديث خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جبريل على الأفضلية في وقت المغرب ، ولذلك في حين غروب الشمس . قال اتفقت الأمة فيها على تعجيلها والمبادرة إليها ابن خويز منداد : ولا نعلم أحدا من المسلمين تأخر بإقامة المغرب في مسجد جماعة عن وقت غروب الشمس . وأحاديث التوسعة تبين وقت الجواز ، فيرتفع التعارض ويصح الجمع ، وهو أولى من الترجيح باتفاق الأصوليين ; لأن فيه إعمال كل واحد من الدليلين ، والقول بالنسخ أو الترجيح فيه إسقاط أحدهما . والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : وقرآن الفجر انتصب قرآن من وجهين : أحدهما أن يكون معطوفا على الصلاة ; المعنى : وأقم قرآن الفجر أي صلاة الصبح ; قالهالفراء . وقال أهل البصرة . انتصب على الإغراء ; أي فعليك بقرآن الفجر ; قاله الزجاج . وعبر عنها بالقرآن خاصة دون غيرها من الصلوات ; لأن القرآن هو أعظمها ، إذ قراءتها طويلة مجهور بها حسبما هو مشهور مسطور ; عن الزجاج أيضا .
قلت : وقد استقر عمل المدينة على استحباب قدرا لا يضر بمن خلفه - يقرأ فيها بطوال المفصل ، ويليها في ذلك الظهر والجمعة - وتخفيف إطالة القراءة في الصبح وتوسطها في العصر والعشاء . وقد قيل في العصر : إنها تخفف كالمغرب . وأما ما ورد في صحيح القراءة في المغرب مسلم وغيره من الإطالة فيما استقر فيه التقصير ، أو من التقصير فيما استقرت فيه الإطالة ; كقراءته في الفجر المعوذتين - كما رواه - وكقراءة الأعراف والمرسلات [ ص: 275 ] والطور في المغرب ، فمتروك بالعمل . ولإنكاره على النسائي معاذ التطويل ، حين أم قومه في العشاء فافتتح سورة البقرة . خرجه الصحيح . وبأمره الأئمة بالتخفيف فقال : . وقال : أيها الناس إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة . كله مسطور في صحيح الحديث . فإذا صلى أحدكم وحده فليطول ما شاء
الخامسة : قوله تعالى : وقرآن الفجر دليل على أن لا صلاة إلا بقراءة ; لأنه سمى الصلاة قرآنا . وقد اختلف العلماء في القراءة في الصلاة فذهب جمهورهم إلى وجوب . وهو مشهور قول قراءة أم القرآن للإمام والفذ في كل ركعة مالك . وعنه أيضا أنها واجبة في جل الصلاة . وهو قول إسحاق . وعنه أيضا تجب في ركعة واحدة ; قاله المغيرة . وعنه أن القراءة لا تجب في شيء من الصلاة . وهو أشذ الروايات عنه . وحكي عن وسحنون مالك أيضا أنها تجب في نصف الصلاة ، وإليه ذهب الأوزاعي . وعن الأوزاعي أيضا وأيوب أنها تجب على الإمام والفذ والمأموم على كل حال . وهو أحد قولي . وقد مضى في [ الفاتحة ] مستوفى . الشافعي
قوله تعالى : السادسة : كان مشهودا روى الترمذي عن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله : أبي هريرة وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا قال : هذا حديث حسن صحيح . ورواه تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وروى عن البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة . يقول فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح : اقرءوا إن شئتم أبو هريرة وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا . ولهذا المعنى أيضا قال مالك : التغليس بالصبح أفضل . وقال والشافعي أبو [ ص: 276 ] حنيفة : الأفضل الجمع بين التغليس والإسفار ، فإن فاته ذلك فالإسفار أولى من التغليس . وهذا مخالف لما كان - عليه السلام - يفعله من المداومة على التغليس ، وأيضا فإن فيه تفويت شهود ملائكة الليل . والله أعلم .
السابعة : استدل بعض العلماء بقوله - صلى الله عليه وسلم - : على أن تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار . صلاة الصبح ليست من صلاة الليل ولا من صلاة النهار
قلت : وعلى هذا فلا تكون صلاة العصر أيضا لا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار ; فإن في الصحيح عن النبي الفصيح - عليه السلام - فيما رواه : أبو هريرة الحديث . ومعلوم أن صلاة العصر من النهار فكذلك تكون صلاة الفجر من الليل وليس كذلك ، وإنما هي من النهار كالعصر بدليل الصيام والإيمان ، وهذا واضح . يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيجتمعون في صلاة العصر وصلاة الفجر