والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا . قوله تعالى :
فيه ست عشرة مسألة :
الأولى : والذين يبتغون الكتاب الذين في موضع رفع . وعند الخليل في موضع نصب على إضمار فعل ؛ لأن بعده أمرا . ولما جرى ذكر العبيد والإماء فيما سبق وصل به أن وسيبويه فالمستحب كتابته ؛ فربما يقصد بالكتابة أن يستقل ويكتسب ويتزوج إذا أراد ، فيكون أعف له . قيل : نزلت في غلام العبد إن طلب الكتاب - طلب من مولاه أن يكاتبه فأبى ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكاتبه لحويطب بن عبد العزى يقال له صبح - وقيل صبيح حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين دينارا فأداها ، وقتل بحنين في الحرب ؛ ذكره القشيري ، وحكاه النقاش . وقال مكي : هو صبيح القبطي غلام . وعلى الجملة فإن الله تعالى أمر المؤمنين كافة أن يكاتب منهم كل من له مملوك وطلب المملوك الكتابة وعلم سيده منه خيرا . حاطب بن أبي بلتعة
الثانية : الكتاب والمكاتبة سواء ؛ مفاعلة مما لا تكون إلا بين اثنين ، لأنها معاقدة بين السيد وعبده ؛ يقال : كاتب يكاتب كتابا ومكاتبة ، كما يقال : قاتل قتالا ومقاتلة . فالكتاب في [ ص: 227 ] الآية مصدر كالقتال والجلاد والدفاع . وقيل : الكتاب هاهنا هو الكتاب المعروف الذي يكتب فيه الشيء ؛ وذلك أنهم كانوا إذا كاتبوا العبد كتبوا عليه وعلى أنفسهم بذلك كتابا . فالمعنى يطلبون العتق الذي يكتب به الكتاب فيدفع إليهم .
الثالثة : : هو أن يكاتب الرجل عبده على مال يؤديه منجما عليه ؛ فإذا أداه فهو حر . ولها حالتان : الأولى : أن يطلبها العبد ويجيبه السيد ؛ فهذا مطلق الآية وظاهرها . الثانية : أن يطلبها العبد ويأباها السيد ؛ وفيها قولان : الأول : معنى المكاتبة في الشرع لعكرمة ، وعطاء ، ومسروق ، وعمرو بن دينار ، وجماعة والضحاك بن مزاحم ، أهل الظاهر أن ذلك واجب على السيد . وقال علماء الأمصار : لا يجب ذلك . وتعلق من أوجبها بمطلق الأمر ، وأفعل بمطلقه على الوجوب حتى يأتي الدليل بغيره . وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ، واختاره وابن عباس ، الطبري . واحتج داود أيضا بأن سيرين أبا محمد بن سيرين سأل أنس بن مالك الكتابة وهو مولاه فأبى أنس ؛ فرفع عمر عليه الدرة ، وتلا : فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا ، فكاتبه أنس . قال داود : وما كان عمر ليرفع الدرة على أنس فيما له مباح ألا يفعله . وتمسك الجمهور بأن الإجماع منعقد على أنه لو سأله أن يبيعه من غيره لم يلزمه ذلك ، ولم يجبر عليه وإن ضوعف له في الثمن . وكذلك لو قال له أعتقني أو دبرني أو زوجني لم يلزمه ذلك بإجماع ، فكذلك الكتابة ؛ لأنها معاوضة فلا تصح إلا عن تراض . وقولهم : صحيح ، لكن إذا عري عن قرينة تقتضي صرفه عن الوجوب ، وتعليقه هنا بشرط علم الخير فيه ؛ فعلق الوجوب على أمر باطن وهو علم السيد بالخيرية . وإذا قال العبد : كاتبني ؛ وقال السيد : لم أعلم فيك خيرا ؛ وهو أمر باطن ، فيرجع فيه إليه ويعول عليه . وهذا قوي في بابه . مطلق الأمر يقتضي الوجوب
الرابعة : واختلف العلماء في قوله تعالى : خيرا فقال ابن عباس ، : المال . وعطاء مجاهد : المال والأداء . والحسن ، والنخعي : الدين والأمانة . وقال مالك : سمعت بعض أهل العلم يقولون هو القوة على الاكتساب والأداء . وعن الليث نحوه ، وهو قول . وقال الشافعي عبيدة السلماني : إقامة الصلاة والخير . قال : وقول من قال إنه المال لا يصح عندنا ؛ لأن العبد مال لمولاه ، فكيف يكون له مال . والمعنى عندنا : إن علمتم فيهم الدين والصدق ، وعلمتم أنهم يعاملونكم على أنهم متعبدون بالوفاء لكم بما عليهم من الكتابة والصدق في [ ص: 228 ] المعاملة فكاتبوهم . وقال الطحاوي أبو عمر : من لم يقل إن الخير هنا المال أنكر أن يقال إن علمتم فيهم مالا ، وإنما يقال : علمت فيه الخير والصلاح والأمانة ؛ ولا يقال : علمت فيه المال ، وإنما يقال علمت عنده المال .
قلت : وحديث بريرة يرد قول من قال : إن الخير المال ؛ على ما يأتي .
الخامسة : اختلف العلماء في فكان كتابة من لا حرفة له ؛ ابن عمر يكره أن يكاتب عبده إذا لم تكن له حرفة ، ويقول : أتأمرني أن آكل أوساخ الناس ؛ ونحوه عن سلمان الفارسي . وروى حكيم بن حزام فقال : كتب عمر بن الخطاب إلى عمير بن سعد : أما بعد ! فانه من قبلك من المسلمين أن يكاتبوا أرقاءهم على مسألة الناس . وكرهه الأوزاعي ، وأحمد ، وإسحاق . ورخص في ذلك مالك ، وأبو حنيفة ، . وروي عن والشافعي علي - رضي الله عنه - أن ابن التياح مؤذنه قال له : أكاتب وليس لي مال ؟ قال نعم ؛ ثم حض الناس على الصدقة علي ؛ فأعطوني ما فضل عن مكاتبتي ، فأتيت عليا فقال : اجعلها في الرقاب . وقد روي عن مالك كراهة ذلك ، وأن يكره مكاتبتها لما يؤدي إليه من فسادها . والحجة في السنة لا فيما خالفها . روى الأئمة عن الأمة التي لا حرفة لها عائشة - رضي الله عنها - قالت : بريرة فقالت : إن أهلي كاتبوني على تسع أواق في تسع سنين كل سنة أوقية ، فأعينيني . . . الحديث . فهذا دليل على أن دخلت علي ألا ترى أن للسيد أن يكاتب عبده وهو لا شيء معه ؛ بريرة جاءت عائشة تخبرها بأنها كاتبت أهلها وسألتها أن تعينها ، وذلك كان في أول كتابتها قبل أن تؤدي منها شيئا ؛ كذلك ذكره ابن شهاب ، عن عروة أن عائشة أخبرته أن بريرة جاءت تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ؛ أخرجه البخاري ، وأبو داود . وفي هذا دليل على جواز وهي غير ذات صنعة ولا حرفة ولا مال ، ولم يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل لها كسب أو عمل واصب أو مال ، ولو كان هذا واجبا لسأل عنه ليقع حكمه عليه ؛ لأنه بعث مبينا معلما - صلى الله عليه وسلم - . وفي هذا الحديث ما يدل على أن من تأول في قوله تعالى : كتابة الأمة ، إن علمتم فيهم خيرا أن المال الخير ، ليس بالتأويل الجيد ، وأن الخير المذكور هو القوة على الاكتساب مع الأمانة . والله أعلم .
[ ص: 229 ] السادسة : لحديث الكتابة تكون بقليل المال وكثيره ، وتكون على أنجم ؛ بريرة . وهذا ما لا خلاف فيه بين العلماء والحمد لله . فلو كاتبه على ألف درهم ولم يذكر أجلا نجمت عليه بقدر سعايته وإن كره السيد . قال : لا بد فيها من أجل ؛ وأقلها ثلاثة أنجم . واختلفوا إذا وقعت على نجم واحد فأكثر أهل العلم يجيزونها على نجم واحد . وقال الشافعي : لا تجوز على نجم واحد ، ولا تجوز حالة البتة ، وإنما ذلك عتق على صفة ؛ كأنه قال : إذا أديت كذا وكذا فأنت حر وليست كتابة . قال الشافعي : اختلف العلماء والسلف في ابن العربي على قولين ، واختلف قول علمائنا كاختلافهم . والصحيح في النظر أن الكتابة مؤجلة ؛ كما ورد بها الأثر في حديث الكتابة إذا كانت حالة بريرة حين كاتبت أهلها على تسع أواق في كل عام أوقية ، وكما فعلت الصحابة ؛ ولذلك سميت كتابة لأنها تكتب ويشهد عليها ، فقد استوسق الاسم والأثر ، وعضده المعنى ؛ فإن المال إن جعله حالا وكان عند العبد شيء فهو مال مقاطعة وعقد مقاطعة لا عقد كتابة . وقال ابن خويز منداد : إذا كاتبه على مال معجل كان عتقا على مال ، ولم تكن كتابة . وأجاز غيره من أصحابنا الكتابة الحالة وسماها قطاعة ، وهو القياس ؛ لأن الأجل فيها إنما هو فسحة للعبد في التكسب . ألا ترى أنه لو جاء بالمنجم عليه قبل محله لوجب على السيد أن يأخذه ويتعجل للمكاتب عتقه . وتجوز الكتابة الحالة ؛ قاله الكوفيون .
قلت : لم يرد عن مالك نص في الكتابة الحالة ؛ والأصحاب يقولون : إنها جائزة ، ويسمونها قطاعة . وأما قول إنها لا تجوز على أقل من ثلاثة أنجم فليس بصحيح ؛ لأنه لو كان صحيحا لجاز لغيره أن يقول : لا يجوز على أقل من خمسة نجوم ؛ لأنها أقل النجوم التي كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشافعي بريرة ، وعلم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضى فيها ، فكان بصواب الحجة أولى . روى عن عائشة البخاري بريرة دخلت عليها تستعينها في كتابتها وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين . . . الحديث . كذا قال أن الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن عروة ، عن عائشة : وعليها خمسة أواق نجمت عليها في خمس سنين . وقال أبو أسامة ، عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عائشة - رضي الله عنها - قالت : بريرة فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق . . . الحديث . وظاهر الروايتين تعارض ، غير أن حديث جاءت هشام أولى [ ص: 230 ] لاتصاله وانقطاع حديث يونس ؛ لقول : وقال البخاري الليث حدثني يونس ؛ ولأن هشاما أثبت في حديث أبيه وجده من غيره ، والله أعلم .
السابعة : لقوله - عليه السلام - : المكاتب عبد ما بقي عليه من مال الكتابة شيء ؛ . أخرج المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم أبو داود ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده . وروي عنه أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : . وهذا قول أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد مالك ، والشافعي ، وأصحابهم ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وداود ، . وروي ذلك عن والطبري ابن عمر من وجوه ، وعن زيد بن ثابت ، وعائشة ، لم يختلف عنهم في ذلك - رضي الله عنهم - . وروي ذلك عن وأم سلمة ، عمر بن الخطاب ، وبه قال ابن المسيب ، والقاسم ، وسالم ، . قال وعطاء مالك : وكل من أدركنا ببلدنا يقول ذلك . وفيها قول آخر روي عن علي أنه إذا أدى الشطر فهو غريم ؛ وبه قال . وروي ذلك عن النخعي عمر - رضي الله عنه - ، والإسناد عنه بأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم خير من الإسناد عنه بأن المكاتب إذا أدى الشطر فلا رق عليه ؛ قاله أبو عمر . وعن علي أيضا يعتق منه بقدر ما أدى . وعنه أيضا أن العتاقة تجري فيه بأول نجم يؤديه . وقال ابن مسعود : إذا أدى ثلث الكتابة فهو عتيق غريم ؛ وهذا قول شريح . وعن ابن مسعود : لو كانت الكتابة مائتي دينار وقيمة العبد مائة دينار فأدى العبد المائة التي هي قيمته عتق ؛ وهو قول أيضا . وقول سابع : إذا أدى الثلاثة الأرباع وبقي الربع فهو غريم ولا يعود عبدا ؛ قاله النخعي عطاء بن أبي رباح ، رواه عنه . وحكي عن بعض السلف أنه بنفس عقد الكتابة حر ، وهو غريم بالكتابة ولا يرجع إلى الرق أبدا . وهذا القول يرده حديث ابن جريج بريرة لصحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . وفيه دليل واضح على أن المكاتب عبد ، ولولا ذلك ما بيعت بريرة ، ولو كان فيها شيء من العتق ما أجاز بيع ذلك ؛ إذ من سنته المجمع عليها ألا يباع الحر . وكذلك كتابة سلمان فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم لجميعهم بالرق حتى أدوا الكتابة . وهي حجة للجمهور في أن المكاتب عبد ما بقي عليه شيء . وقد ناظر وجويرية ؛ علي بن أبي طالب في المكاتب ؛ فقال زيد بن ثابت لعلي : أكنت راجمه لو زنى ، أو مجيزا شهادته لو شهد ؟ فقال علي لا . فقال زيد : هو عبد ما بقي عليه شيء . [ ص: 231 ] وقد روى عن النسائي ، علي ، - رضي الله عنهم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : وابن عباس . وإسناده صحيح . وهو حجة لما روي عن المكاتب يعتق منه بقدر ما أدى ويقام عليه الحد بقدر ما أدى ويرث بقدر ما عتق منه علي ، ويعتضد بما رواه أبو داود عن نبهان مكاتب أم سلمة قال سمعت أم سلمة تقول : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . وأخرجه إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح . إلا أنه يحتمل أن يكون خطابا مع زوجاته أخذا بالاحتياط والورع في حقهن ؛ كما قال لسودة : مع أنه قد حكم بأخوتها له ، وبقوله احتجبي منه لعائشة ، : وحفصة يعني أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه مع أنه قال ابن أم مكتوم ، : لفاطمة بنت قيس ابن أم مكتوم وقد تقدم هذا المعنى . اعتدي عند
الثامنة : أجمع على أن أن الكتابة لا تنفسخ ما داما على ذلك ثابتين . المكاتب إذا حل عليه نجم من نجومه أو نجمان أو نجومه كلها فوقف السيد عن مطالبته وتركه بحاله
التاسعة : قال مالك : ليس للعبد أن يعجز نفسه إذا كان له مال ظاهر ، وإن لم يظهر له مال فذلك إليه . وقال الأوزاعي : لا يمكن من تعجيز نفسه إذا كان قويا على الأداء . وقال : له أن يعجز نفسه ، علم له مال أو قوة على الكتابة أو لم يعلم ؛ فإذا قال : قد عجزت وأبطلت الكتابة فذلك إليه . وقال الشافعي مالك : إذا عجز المكاتب فكل ما قبضه منه سيده قبل العجز حل له ، كان من كسبه أو من صدقة عليه . وأما ما أعين به على فكاك رقبته فلم يف ذلك بكتابته كان لكل من أعانه الرجوع بما أعطى أو تحلل منه المكاتب . ولو أعانوه صدقة لا على فكاك رقبته فذلك [ ص: 232 ] إن عجز حل لسيده ولو تم به فكاكه وبقيت منه فضلة . فإن كان بمعنى الفكاك ردها إليهم بالحصص أو يحللونه منها . هذا كله مذهب مالك فيما ذكر ابن القاسم . وقال أكثر أهل العلم : إن ما قبضه السيد منه من كتابته ، وما فضل بيده بعد عجزه من صدقة أو غيرها فهو لسيده ، يطيب له أخذ ذلك كله . هذا قول الشافعي ، وأصحابهما ، وأبي حنيفة ، ورواية عن وأحمد بن حنبل ، شريح . وقال الثوري : يجعل السيد ما أعطاه في الرقاب ؛ وهو قول مسروق ، والنخعي ، ورواية عن شريح . وقالت طائفة : ما قبض منه السيد فهو له ، وما فضل بيده بعد العجز فهو له دون سيده ؛ وهذا قول بعض من ذهب إلى أن العبد يملك . وقال إسحاق : ما أعطي بحال الكتابة رد على أربابه .
العاشرة : حديث بريرة على اختلاف طرقه وألفاظه يتضمن أن بريرة وقع فيها بيع بعد كتابة تقدمت . واختلف الناس في بسبب ذلك . وقد ترجم البخاري ( باب بيع المكاتب إذا رضي ) . وإلى جواز بيعه للعتق إذا رضي المكاتب بالبيع ولو لم يكن عاجزا ، ذهب بيع المكاتب ابن المنذر ، والداودي ، وهو الذي ارتضاه أبو عمر بن عبد البر ، وبه قال ابن شهاب ، وأبو الزناد ، وربيعة ؛ غير أنهم قالوا : لأن رضاه بالبيع عجز منه . وقال مالك ، وأصحابهما : لا يجوز بيع المكاتب ما دام مكاتبا حتى يعجز ، ولا يجوز بيع كتابته بحال ؛ وهو قول وأبو حنيفة ، الشافعي بمصر ، وكان بالعراق يقول : بيعه جائز ، وأما بيع كتابته فغير جائزة . وأجاز مالك بيع الكتابة ؛ فإن أداها عتق وإلا كان رقيقا لمشتري الكتابة . ومنع من ذلك أبو حنيفة ؛ لأنه بيع غرر . واختلف قول في ذلك بالمنع والإجازة . وقالت طائفة : يجوز بيع المكاتب على أن يمضي في كتابته ؛ فإن أدى عتق وكان ولاؤه للذي ابتاعه ، ولو عجز فهو عبد له . وبه قال الشافعي النخعي ، وعطاء ، والليث ، وأحمد ، . وقال وأبو ثور الأوزاعي : لا يباع المكاتب إلا للعتق ، ويكره أن يباع قبل عجزه ؛ وهو قول أحمد ، وإسحاق . قال أبو عمر : في حديث بريرة إجازة بيع المكاتب إذا رضي بالبيع ولم يكن عاجزا عن أداء نجم قد حل عليه ؛ بخلاف قول من زعم أن بيع المكاتب غير جائز إلا بالعجز ؛ لأن بريرة لم تذكر أنها عجزت عن أداء نجم ، ولا أخبرت بأن النجم قد حل عليها ، ولا قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أعاجزة أنت أم هل حل عليك نجم ؟ ولو لم يجز بيع المكاتب والمكاتبة إلا بالعجز عن أداء ما قد حل لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سألها : أعاجزة هي أم لا ، وما كان ليأذن في شرائها إلا بعد علمه - صلى الله عليه وسلم - أنها عاجزة ولو عن أداء نجم واحد قد حل عليها . وفي حديث الزهري أنها لم تكن قضت من كتابتها شيئا . ولا أعلم في هذا الباب حجة أصح [ ص: 233 ] من حديث بريرة هذا ، ولم يرو عن النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء يعارضه ، ولا في شيء من الأخبار دليل على عجزها . استدل من منع من بيع المكاتب بأمور : منها أن قالوا إن الكتابة المذكورة لم تكن انعقدت ، وأن قولها كاتبت أهلي معناه أنها راوضتهم عليها ، وقدروا مبلغها وأجلها ولم يعقدوها . وظاهر الأحاديث خلاف هذا إذا تؤمل مساقها . وقيل : إن بريرة عجزت عن الأداء فاتفقت هي وأهلها على فسخ الكتابة ، وحينئذ صح البيع ؛ إلا أن هذا إنما يتمشى على قول من يقول : إن تعجيز المكاتب غير مفتقر إلى حكم حاكم إذا اتفق العبد والسيد عليه ؛ لأن الحق لا يعدوهما ، وهو المذهب المعروف . وقال سحنون : لا بد من السلطان ؛ وهذا إنما خاف أن يتواطآ على ترك حق الله تعالى . ويدل على صحة أنها عجزت ما روي أن بريرة جاءت عائشة تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا ؛ فقالت لها عائشة : ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك فعلت . فظاهر هذا أن جميع كتابتها أو بعضها استحق عليها ؛ لأنه لا يقضى من الحقوق إلا ما وجبت المطالبة به ، والله أعلم . هذه التأويلات أشبه ما لهم وفيها من الدخل ما بيناه . وقال ابن المنذر : ولا أعلم حجة لمن قال ليس له بيع المكاتب إلا أن يقول لعل بريرة عجزت . قال : وأظهر معانيه أن لمالك المكاتب بيعه . الشافعي
الحادية عشرة : عتق ولا يحتاج إلى ابتداء عتق من السيد . وكذلك ولده الذين ولدوا في كتابته من أمته ، يعتقون بعتقه ويرقون برقه ؛ لأن ولد الإنسان من أمته بمثابته اعتبارا بالحر وكذلك ولد المكاتبة ، فإن كان لهما ولد قبل الكتابة لم يدخل في الكتابة إلا بشرط . المكاتب إذا أدى كتابته
الثانية عشرة : وآتوهم من مال الله الذي آتاكم هذا أمر للسادة بإعانتهم في مال الكتابة ؛ إما بأن يعطوهم شيئا مما في أيديهم - أعني أيدي السادة - أو يحطوا عنهم شيئا من مال الكتابة . قال مالك : يوضع عن المكاتب من آخر كتابته . وقد وضع ابن عمر خمسة آلاف من خمسة وثلاثين ألفا . واستحسن علي - رضي الله عنه - أن يكون ذلك ربع الكتابة . قال الزهراوي : روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . واستحسن ابن مسعود ، ثلثها . وقال والحسن بن أبي الحسن قتادة : عشرها . : يسقط عنه شيئا ، ولم يحده ؛ وهو قول ابن جبير واستحسنه الشافعي ، الثوري . قال : والشيء أقل شيء يقع عليه اسم شيء ، ويجبر عليه السيد ويحكم به الحاكم على [ ص: 234 ] الورثة إن مات السيد . ورأى الشافعي مالك رحمه الله تعالى هذا الأمر على الندب ، ولم ير لقدر الوضعية حدا . احتج بمطلق الأمر في قوله [ تعالى ] : وآتوهم ، ورأى أن عطف الواجب على الندب معلوم في القرآن ولسان العرب ؛ كما قال تعالى : الشافعي إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وما كان مثله . قال : وذكره قبله ابن العربي إسماعيل بن إسحاق القاضي ، جعل الإيتاء واجبا ، والكتابة غير واجبة ؛ فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا ، وهذا لا نظير له ، فصارت دعوى محضة . فإن قيل : يكون ذلك كالنكاح لا يجب فإذا انعقد وجبت أحكامه ، منها المتعة . قلنا : عندنا لا تجب المتعة فلا معنى لأصحاب الشافعي . وقد كاتب الشافعي عثمان بن عفان عبده وحلف ألا يحطه . . . ، في حديث طويل .
قلت : وقد قال الحسن ، والنخعي ، وبريدة : إنما الخطاب بقوله : وآتوهم للناس أجمعين في أن يتصدقوا على المكاتبين ، وأن يعينوهم في فكاك رقابهم . وقال : إنما الخطاب للولاة بأن يعطوا المكاتبين من مال الصدقة حظهم ؛ وهو الذي تضمنه قوله تعالى : وفي الرقاب . وعلى هذين القولين فليس لسيد المكاتب أن يضع شيئا عن مكاتبه . ودليل هذا أنه لو أراد حط شيء من نجوم الكتابة لقال وضعوا عنهم كذا . زيد بن أسلم
الثالثة عشرة : : إذا قلنا : إن المراد بالخطاب السادة فرأى عمر بن الخطاب أن يكون ذلك من أول نجومه مبادرة إلى الخير خوفا ألا يدرك آخرها . ورأى مالك رحمه الله تعالى وغيره أن يكون الوضع من آخر نجم . وعلة ذلك أنه إذا وضع من أول نجم ربما عجز العبد فرجع هو وماله إلى السيد ، فعادت إليه وضيعته وهي شبه الصدقة . وهذا قول عبد الله بن عمر ، وعلي . وقال مجاهد : يترك له من كل نجم . قال : والأقوى عندي أن يكون في آخرها ؛ لأن الإسقاط أبدا إنما يكون في أخريات الديون . ابن العربي
الرابعة عشرة : لم يجب عليه أن يعطيه من ثمنه شيئا ، سواء باعه لعتق أو لغير عتق ، وليس ذلك كالسيد يؤدي إليه مكاتب كتابته فيؤتيه منها أو يضع عنه من آخرها نجما أو ما شاء ؛ على ما أمر الله به في كتابه ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر موالي المكاتب إذا بيع للعتق رضا منه بعد الكتابة وقبض بائعه ثمنه بريرة بإعطائها مما قبضوا شيئا ، وإن كانوا قد باعوها للعتق .
[ ص: 235 ] الخامسة عشرة : اختلفوا في فقال صفة عقد الكتابة ؛ ابن خويز منداد : صفتها أن يقول السيد لعبده : كاتبتك على كذا وكذا من المال ، في كذا وكذا نجما ، إذا أديته فأنت حر . أو يقول له أد إلي ألفا في عشرة أنجم وأنت حر . فيقول العبد : قد قبلت ، ونحو ذلك من الألفاظ ؛ فمتى أداها عتق . وكذلك لو قال العبد كاتبني ، فقال السيد قد فعلت ، أو قد كاتبتك . قال : وهذا لا يلزم ؛ لأن لفظ القرآن لا يقتضيه والحال يشهد له ؛ فإن ذكره فحسن ، وإن تركه فهو معلوم لا يحتاج إليه . ومسائل هذا الباب وفروعه كثيرة ، وقد ذكرنا من أصوله جملة ، فيها لمن اقتصر عليها كفاية ، والله الموفق للهداية . ابن العربي
السادسة عشرة : في واختلف العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال : أن المكاتب إذا هلك وترك مالا أكثر مما بقي عليه من كتابته وله ولد ولدوا في كتابته أو كاتب عليهم ، ورثوا ما بقي من المال بعد قضاء كتابته ؛ لأن حكمهم كحكمه ، وعليهم السعي فيما بقي من كتابته لو لم يخلف مالا ، ولا يعتقون إلا بعتقه ، ولو أدى عنهم ما رجع بذلك عليهم ؛ لأنهم يعتقون عليه ؛ فهم أولى بميراثه لأنهم مساوون له في جميع حاله . ميراث المكاتب ؛
والقول الثاني : أنه يؤدي عنه من ماله جميع كتابته ، وجعل كأنه قد مات حرا ، ويرثه جميع ولده وسواء في ذلك من كان حرا قبل موته من ولده ، ومن كاتب عليهم ، أو ولدوا في كتابته لأنهم قد استووا في الحرية كلهم حين تأدت عنهم كتابتهم . روي هذا القول عن علي ، ومن التابعين عن وابن مسعود ، عطاء ، والحسن ، وطاوس ، وإبراهيم ، وبه قال فقهاء الكوفة سفيان الثوري ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، وإليه ذهب والحسن بن صالح بن حي ، إسحاق .
والقول الثالث : أن فقد مات عبدا ، وكل ما يخلفه من المال فهو لسيده ، ولا يرثه أحد من أولاده ، لا الأحرار ولا الذين معه في كتابته ؛ لأنه لما مات قبل أن يؤدي جميع كتابته فقد مات عبدا وماله لسيده ، فلا يصح عتقه بعد موته ؛ لأنه محال أن يعتق عبد بعد موته ، وعلى ولده الذين كاتب عليهم أو ولدوا في كتابته أن يسعوا في باقي الكتابة ، ويسقط عنهم منها قدر حصته ، فإن أدوا عتقوا لأنهم كانوا فيها تبعا لأبيهم ، وإن لم يؤدوا ذلك رقوا . هذا قول المكاتب إذا مات قبل أن يؤدي جميع كتابته وبه قال الشافعي ، وهو قول أحمد بن حنبل ، عمر بن الخطاب ، وزيد بن ثابت ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري ، وقتادة .
ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا روي عن قوله تعالى : جابر بن عبد الله ، - رضي الله عنهم - أن هذه الآية نزلت في وابن عباس عبد الله بن أبي ، وكانت له جاريتان إحداهما [ ص: 236 ] تسمى معاذة ، والأخرى مسيكة ، وكان يكرههما على الزنا ويضربهما عليه ابتغاء الأجر وكسب الولد ؛ فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآية فيه وفيمن فعل فعله من المنافقين . ومعاذة هذه أم خولة التي جادلت النبي - صلى الله عليه وسلم - في زوجها . وفي صحيح مسلم ، عن جابر لعبد الله بن أبي يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة فكان يكرههما على الزنا ، فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - عز وجل - ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إلى قوله ( غفور رحيم ) .
أن جارية إن أردن تحصنا راجع إلى الفتيات ، وذلك أن الفتاة إذا أرادت التحصن فحينئذ يمكن ويتصور أن يكون السيد مكرها ، ويمكن أن ينهى عن الإكراه . وإذا كانت الفتاة لا تريد التحصن فلا يتصور أن يقال للسيد لا تكرهها ؛ لأن الإكراه لا يتصور فيها وهي مريدة للزنا . فهذا أمر في سادة وفتيات حالهم هذه . وإلى هذا المعنى أشار قوله تعالى : فقال : إنما ذكر الله تعالى إرادة التحصن من المرأة لأن ذلك هو الذي يصور الإكراه ؛ فأما إذا كانت هي راغبة في الزنا لم يتصور إكراه ، فحصلوه . وذهب هذا النظر عن كثير من المفسرين ؛ فقال بعضهم : قوله : ابن العربي إن أردن تحصنا راجع إلى الأيامى ، قال الزجاج ، : في الكلام تقديم وتأخير ؛ أي وأنكحوا الأيامى والصالحين من عبادكم إن أردن تحصنا . وقال بعضهم : هذا الشرط في قوله : ( إن أردن ) ملغى ، ونحو ذلك مما يضعف والله الموفق . والحسين بن الفضل
لتبتغوا عرض الحياة الدنيا أي الشيء الذي تكسبه الأمة بفرجها والولد يسترق فيباع . وقيل : كان الزاني يفتدي ولده من المزني بها بمائة من الإبل يدفعها إلى سيدها . قوله تعالى :
قوله تعالى : ومن يكرهن أي يقهرهن . فإن الله من بعد إكراههن غفور لهن رحيم بهن . وقرأ ابن مسعود ، وجابر بن عبد الله ، ( لهن غفور ) بزيادة لهن . وقد مضى الكلام في الإكراه في ( النحل ) والحمد لله . ثم عدد تعالى على المؤمنين نعمه فيما أنزل إليهم من الآيات المنيرات ، وفيها ضرب لهم من أمثال الماضين من الأمم ليقع التحفظ مما وقع أولئك فيه . وابن جبير