والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين قال قوله تعالى : الضحاك : أي مطيعين لك . وفيه جواز . وقد تقدم . والذرية تكون واحدا وجمعا . فكونها للواحد قوله : الدعاء بالولد رب هب لي من لدنك ذرية طيبة فهب لي من لدنك وليا وكونها للجمع ذرية ضعافا وقد مضى في ( البقرة ) اشتقاقها مستوفى . وقرأ نافع وابن كثير [ ص: 79 ] وابن عامر والحسن : " وذرياتنا " وقرأ أبو عمر وحمزة والكسائي وطلحة وعيسى : " وذريتنا " بالإفراد . قرة أعين نصب على المفعول ، أي قرة أعين لنا . وهذا نحو قوله عليه الصلاة والسلام لأنس : . وقد تقدم بيانه في ( آل عمران ) و ( مريم ) وذلك أن الإنسان إذا بورك له في ماله وولده قرت عينه بأهله وعياله ، حتى إذا كانت عنده زوجة اجتمعت له فيها أمانيه من جمال وعفة ونظر وحوطة أو كانت عنده ذرية محافظون على الطاعة ، معاونون له على وظائف الدين والدنيا ، لم يلتفت إلى زوج أحد ولا إلى ولده ، فتسكن عينه عن الملاحظة ، ولا تمتد عينه إلى ما ترى ; فذلك حين قرة العين وسكون النفس . ووحد " قرة " لأنه مصدر ; تقول : قرت عينك قرة . وقرة العين يحتمل أن تكون من القرار ، ويحتمل أن تكون من القر وهو الأشهر . والقر البرد ; لأن العرب تتأذى بالحر وتستريح إلى البرد . وأيضا فإن دمع السرور بارد ، ودمع الحزن سخن ، فمن هذا يقال : أقر الله عينك ، وأسخن الله عين العدو . وقال الشاعر : اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه
فكم سخنت بالأمس عين قريرة وقرت عيون دمعها اليوم ساكب
قوله تعالى : واجعلنا للمتقين إماما أي قدوة يقتدى بنا في الخير ، وهذا لا يكون إلا أن يكون الداعي متقيا قدوة ; وهذا هو قصد الداعي . وفي الموطأ : " إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم " فكان ابن عمر يقول في دعائه : اللهم اجعلنا من أئمة المتقين . وقال : " إماما " ولم يقل " أئمة " على الجمع ; لأن الإمام مصدر . يقال : أم القوم فلان إماما ; مثل الصيام والقيام . وقال بعضهم : أراد أئمة ، كما يقول القائل أميرنا هؤلاء ، يعني أمراءنا . وقال الشاعر :
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير
أي أمراء . وكان القشيري أبو القاسم شيخ الصوفية يقول : الإمامة بالدعاء لا بالدعوى ، يعني بتوفيق الله وتيسيره ومنته لا بما يدعيه كل أحد لنفسه . وقال : لم يطلبوا الرياسة بل بأن يكونوا قدوة في الدين . وقال إبراهيم النخعي ابن عباس : اجعلنا أئمة هدى ، كما قال تعالى : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا وقال مكحول : اجعلنا أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون . وقيل : هذا من المقلوب ; مجازه : واجعل المتقين لنا إماما ; وقال مجاهد . والقول الأول أظهر وإليه يرجع قول ابن عباس ومكحول ، ويكون فيه دليل . على أن ندب . و " إمام " واحد يدل على جمع ; لأنه مصدر كالقيام . قال طلب الرياسة في [ ص: 80 ] الدين الأخفش : الإمام جمع " آم " من أم يؤم ، جمع على فعال ، نحو صاحب وصحاب ، وقائم وقيام .
قوله تعالى : أولئك يجزون الغرفة بما صبروا " أولئك " خبر : وعباد الرحمن في قول الزجاج على ما تقدم ، وهو أحسن ما قيل فيه . وما تخلل بين المبتدأ وخبره أوصافهم من التحلي والتخلي ; وهي إحدى عشرة : ، التواضع ، والحلم ، والتهجد ، والخوف ، وترك الإسراف والإقتار ، والنزاهة عن الشرك والزنى والقتل ، والتوبة وتجنب الكذب . و ( الغرفة ) الدرجة الرفيعة وهي والعفو عن المسيء ، وقبول المواعظ ، والابتهال إلى الله كما أن الغرفة أعلى مساكن الدنيا . حكاه أعلى منازل الجنة وأفضلها ابن شجرة . وقال الضحاك : الغرفة الجنة بما صبروا أي بصبرهم على أمر ربهم وطاعة نبيهم عليه أفضل الصلاة والسلام . وقال محمد بن علي بن الحسين : بما صبروا على الفقر والفاقة في الدنيا . وقال الضحاك : بما صبروا عن الشهوات .
ويلقون فيها تحية وسلاما قرأ أبو بكر والمفضل والأعمش ويحيى وحمزة وخلف : ( ويلقون ) مخففة ، واختاره والكسائي الفراء ; قال لأن العرب تقول : فلان يتلقى بالسلام وبالتحية وبالخير " بالتاء " ، وقلما يقولون فلان يلقى السلامة . وقرأ الباقون : " ويلقون " واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ; لقوله تعالى : ولقاهم نضرة وسرورا . قال : وما ذهب إليه أبو جعفر النحاس الفراء واختاره غلط ; لأنه يزعم أنها لو كانت " يلقون " كانت في العربية بتحية وسلام ، وقال كما يقال : فلان يتلقى بالسلام وبالخير ; فمن عجيب ما في هذا الباب أنه قال " يتلقى " والآية " يلقون " والفرق بينهما بين لأنه يقال فلان يتلقى بالخير ولا يجوز حذف الباء ، فكيف يشبه هذا ذاك ! وأعجب من هذا أن في القرآن ولقاهم نضرة وسرورا ولا يجوز أن يقرأ بغيره . وهذا يبين أن الأولى على خلاف ما قال . والتحية من الله والسلام من الملائكة . وقيل : التحية البقاء الدائم والملك العظيم ; والأظهر أنهما بمعنى واحد ، وأنهما من قبل الله تعالى ; دليله قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام وسيأتي . " خالدين " نصب على الحال فيها حسنت مستقرا ومقاما
قوله تعالى : قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم هذه آية مشكلة تعلقت بها الملحدة . يقال : ما عبأت بفلان أي ما باليت به ; أي ما كان له عندي وزن ولا قدر . وأصل " يعبأ " من العبء وهو الثقل . وقول الشاعر [ أبو زبيد ] :
[ ص: 81 ]
كأن بصدره وبجانبيه عبيرا بات يعبئوه عروس
أي يجعل بعضه على بعض . فالعبء الحمل الثقيل ، والجمع أعباء . والعبء المصدر . و " ما " استفهامية ; ظهر في أثناء كلام الزجاج ، وصرح به الفراء . وليس يبعد أن تكون نافية ; لأنك إذا حكمت بأنها استفهام فهو نفي خرج مخرج الاستفهام ; كما قال تعالى : هل جزاء الإحسان إلا الإحسان قال ابن الشجري : وحقيقة القول عندي أن موضع " ما " نصب ; والتقدير : أي عبء يعبأ بكم ; أي أي مبالاة يبالي ربي بكم لولا دعاؤكم ; أي لولا دعاؤه إياكم لتعبدوه ، فالمصدر الذي هو الدعاء على هذا القول مضاف إلى مفعوله ; وهو اختيار الفراء . وفاعله محذوف وجواب " لولا " محذوف كما حذف في قوله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال تقديره : لم يعبأ بكم . ودليل هذا القول قوله تعالى : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فالخطاب لجميع الناس ; فكأنه قال لقريش منهم : أي ما يبالي الله بكم لولا عبادتكم إياه أن لو كانت ; وذلك الذي يعبأ بالبشر من أجله . ويؤيد هذا قراءة ابن الزبير وغيره . ( فقد كذب الكافرون ) فالخطاب ب " ما يعبأ " لجميع الناس ، ثم يقول لقريش : فأنتم قد كذبتم ولم تعبدوه فسوف يكون التكذيب هو سبب العذاب لزاما . وقال النقاش وغيره : المعنى ; لولا استغاثتكم إليه في الشدائد ونحو ذلك . بيانه : فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين ونحو هذا . وقيل : ما يعبأ بكم أي بمغفرة ذنوبكم ولا هو عنده عظيم لولا دعاؤكم معه الآلهة والشركاء . بيانه : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم . قاله الضحاك . وقال الوليد بن أبي الوليد : بلغني فيها : أي ما خلقتكم ولي حاجة إليكم إلا أن تسألوني فأغفر لكم وأعطيكم . وروى أنه كان في التوراة : يا ابن آدم وعزتي ما خلقتك لأربح عليك إنما خلقتك لتربح علي فاتخذني بدلا من كل شيء فأنا خير لك من كل شيء . قال وهب بن منبه ابن جني : قرأ ابن الزبير فقد كذب الكافرون . قال وابن عباس الزهراوي والنحاس : وهي قراءة ابن مسعود وهي على التفسير ; للتاء والميم في " كذبتم " . وذهب القتبي والفارسي إلى أن الدعاء مضاف إلى الفاعل ، والمفعول محذوف . الأصل : لولا دعاؤكم آلهة من دونه ; وجواب " لولا " محذوف ، تقديره في هذا الوجه : لم يعذبكم . ونظير قوله : لولا دعاؤكم آلهة قوله : إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم . فقد كذبتم أي كذبتم بما دعيتم إليه ; هذا على [ ص: 82 ] القول الأول ; وكذبتم بتوحيد الله على الثاني . فسوف يكون لزاما أي يكون تكذيبكم ملازما لكم . والمعنى : فسوف يكون جزاء التكذيب ، كما قال : ووجدوا ما عملوا حاضرا أي جزاء ما عملوا ، وقوله : فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي جزاء ما كنتم تكفرون . وحسن إضمار التكذيب لتقدم ذكر فعله ; لأنك إذا ذكرت الفعل دل بلفظه على مصدره ، كما قال : ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم أي لكان الإيمان . وقوله : وإن تشكروا يرضه لكم أي يرضى الشكر . ومثله كثير . وجمهور المفسرين على أن المراد باللزام هنا ما نزل بهم يوم بدر ، وهو قول عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل وغيرهم . وفي صحيح مسلم عن عبد الله : وقد مضت البطشة والدخان واللزام . وسيأتي مبينا في سورة الدخان إن شاء الله تعالى . وقالت فرقة : هو توعد بعذاب الآخرة . وعن ابن مسعود أيضا : اللزام التكذيب نفسه ; أي لا يعطون التوبة منه ; ذكره الزهراوي ; فدخل في هذا يوم بدر وغيره من العذاب الذي يلزمونه . وقال أبو عبيدة : " لزاما " فيصلا أي فسوف يكون فيصلا بينكم وبين المؤمنين . والجمهور من القراء على كسر اللام ; وأنشد أبو عبيدة لصخر :
فإما ينجوا من خسف أرض فقد لقيا حتوفهما لزاما
ولزاما وملازمة واحد . وقال الطبري : " لزاما " يعني عذابا دائما لازما ، وهلاكا مفنيا يلحق بعضكم ببعض ; كقول أبي ذؤيب :
ففاجأه بعادية لزام كما يتفجر الحوض اللقيف
يعني باللزام : الذي يتبع بعضه بعضا ، وباللقيف : المتساقط الحجارة المتهدم . النحاس : وحكى أبو حاتم عن أبي زيد قال : سمعت قعنبا أبا السمال يقرأ : " لزاما " بفتح اللام . قال أبو جعفر : يكون مصدر لزم ، والكسر أولى ، يكون مثل قتال ومقاتلة ، كما أجمعوا على الكسر في قوله عز وجل : ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى . قال غيره : " اللزام " بالكسر مصدر لازم لزاما مثل خاصم خصاما ، و " اللزام " بالفتح مصدر لزم مثل سلم سلاما أي سلامة ; ف " اللزام " بالفتح اللزوم ، واللزام الملازمة ، والمصدر في القراءتين وقع موقع اسم الفاعل . فاللزام وقع موقع ملازم ، واللزام وقع موقع لازم . كما قال تعالى : [ ص: 83 ] قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا أي غائرا . قال النحاس : وللفراء قول في اسم " يكون " قال : يكون مجهولا . وهذا غلط ; لأن المجهول لا يكون خبره إلا جملة ، كما قال تعالى : إنه من يتق ويصبر وكما حكى النحويون كان زيد منطلق . يكون في " كان " مجهول ويكون المبتدأ وخبره خبر المجهول ، التقدير : كان الحديث ; فأما أن يقال : كان منطلقا ، ويكون في " كان " مجهول ، فلا يجوز عند أحد علمناه . وبالله التوفيق وهو المستعان والحمد لله رب العالمين .