فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين قال قوله تعالى : أبو عبيدة : " رسول " بمعنى " رسالة " والتقدير على هذا ; إنا ذوو رسالة رب العالمين . قال الهذلي :
ألكني إليها وخير الرسول أعلمهم بنواحي الخبر
" ألكني إليها " معناه : أرسلني . وقال آخر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسر ولا أرسلتهم برسول
آخر :
ألا أبلغ بني عمرو رسولا بأني عن فتاحتكم غني
وقال العباس بن مرداس :
ألا من مبلغ عني خفافا رسولا بيت أهلك منتهاها
[ ص: 90 ] يعني رسالة ؛ فلذلك أنثها . قال أبو عبيد : ويجوز أن يكون الرسول في معنى الاثنين والجمع ; فتقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، وهذان رسولي ووكيلي ، وهؤلاء رسولي ووكيلي . ومنه قوله تعالى : فإنهم عدو لي . وقيل : معناه إن كل واحد منا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يسيروا معنا إلى فلسطين ولا تستعبدهم ; وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة ، وكانوا في ذلك الوقت ستمائة ألف وثلاثين ألفا . فانطلقا إلى فرعون فلم يؤذن لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البواب على فرعون فقال : هاهنا إنسان يزعم أنه رسول رب العالمين . فقال فرعون : ايذن له لعلنا نضحك منه ; فدخلا عليه وأديا الرسالة . وروى وهب وغيره : أنهما لما دخلا على فرعون وجداه وقد أخرج سباعا من أسد ونمور وفهود يتفرج عليها ، فخاف سواسها أن تبطش بموسى وهارون ، فأسرعوا إليها ، وأسرعت السباع إلى موسى وهارون ، فأقبلت تلحس أقدامهما ، وتبصبص إليهما بأذنابها ، وتلصق خدودها بفخذيهما ، فعجب فرعون من ذلك فقال : ما أنتما ؟ قالا : إنا رسول رب العالمين فعرف موسى لأنه نشأ في بيته ، قال ألم نربك فينا وليدا على جهة المن عليه والاحتقار . أي ربيناك صغيرا ولم نقتلك في جملة من قتلنا ولبثت فينا من عمرك سنين فمتى كان هذا الذي تدعيه . ثم قرره بقتل القبطي وفعلت فعلتك التي فعلت والفعلة بفتح الفاء المرة من الفعل . وقرأ الشعبي : ( فعلتك ) بكسر الفاء والفتح أولى ; لأنها المرة الواحدة ، والكسر بمعنى الهيئة والحال ، أي فعلتك التي تعرف ، فكيف تدعي مع علمنا أحوالك بأن الله أرسلك . وقال الشاعر :
كأن مشيتها من بيت جارتها مر السحابة لا ريث ولا عجل
ويقال : كان ذلك أيام الردة والردة . وأنت من الكافرين قال الضحاك : أي في قتلك القبطي إذ هو نفس لا يحل قتله . وقيل : أي بنعمتي التي كانت لنا عليك من التربية والإحسان إليك ; قاله ابن زيد . الحسن : من الكافرين في أني إلهك . : من الكافرين بالله لأنك كنت معنا على ديننا هذا الذي تعيبه . وكان بين خروج السدي موسى عليه السلام حين قتل القبطي وبين رجوعه نبيا أحد عشر عاما غير أشهر . ف قال فعلتها إذا أي فعلت تلك الفعلة - يريد قتل القبطي - وأنا إذ ذاك من الضالين أي من الجاهلين ; فنفى عن نفسه الكفر ، وأخبر أنه فعل ذلك على الجهل . وكذا قال مجاهد ; من الضالين : من الجاهلين . ابن زيد : من الجاهلين بأن الوكزة تبلغ القتل . وفي مصحف عبد الله ( من الجاهلين ) ويقال لمن جهل [ ص: 91 ] شيئا ضل عنه . وقيل : وأنا من الضالين من الناسين ; قاله أبو عبيدة . وقيل : وأنا من الضالين عن النبوة ولم يأتني عن الله فيه شيء ، فليس علي فيما فعلته في تلك الحالة توبيخ . وبين بهذا أن التربية فيهم لا تنافي النبوة والحلم على الناس ، وأن . القتل خطأ أو في وقت لم يكن فيه شرع لا ينافي النبوة
قوله تعالى : ففررت منكم لما خفتكم أي خرجت من بينكم إلى مدين كما في سورة ( القصص ) : فخرج منها خائفا يترقب وذلك حين القتل . فوهب لي ربي حكما يعني النبوة ; عن وغيره . السدي الزجاج : تعليم التوراة التي فيها حكم الله . وقيل : علما وفهما . وجعلني من المرسلين .
قوله تعالى : وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل اختلف الناس في معنى هذا الكلام ; فقال السدي والطبري والفراء : هذا الكلام من موسى عليه السلام على جهة الإقرار بالنعمة ; كأنه يقول : نعم ، وتربيتك نعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني ، ولكن لا يدفع ذلك رسالتي . وقيل : هو من موسى عليه السلام على جهة الإنكار ; أي أتمن علي بأن ربيتني وليدا وأنت قد استعبدت بني إسرائيل وقتلتهم ؟ أي ليست بنعمة ; لأن الواجب كان ألا تقتلهم ولا تستعبدهم فإنهم قومي ; فكيف تذكر إحسانك إلي على الخصوص ؟ قال معناه قتادة وغيره . وقيل : فيه تقدير استفهام ; أي أوتلك نعمة ؟ قاله الأخفش والفراء أيضا وأنكره النحاس وغيره . قال النحاس : وهذا لا يجوز لأن ألف الاستفهام تحدث معنى ، وحذفها محال إلا أن يكون في الكلام " أم " كما قال الشاعر :
تروح من الحي أم تبتكر
ولا أعلم بين النحويين اختلافا في هذا إلا شيئا قاله الفراء . قال : يجوز ألف الاستفهام في أفعال الشك ، وحكي : ترى زيدا منطلقا ؟ بمعنى : أترى . وكان علي بن سليمان يقول في هذا : إنما أخذه من ألفاظ العامة . قال الثعلبي : قال الفراء ومن قال إنها إنكار قال معناه : أوتلك نعمة ؟ على طريق الاستفهام ; كقوله : " هذا ربي " " فهم الخالدون " قال الشاعر : [ أبو خراش الهذلي ]
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
[ ص: 92 ] وأنشد الغزنوي شاهدا على ترك الألف قولهم :
لم أنس يوم الرحيل وقفتها وجفنها من دموعها شرق
وقولها والركاب واقفة تركتني هكذا وتنطلق
قلت : ففي هذا حذف ألف الاستفهام مع عدم " أم " خلاف قول النحاس . وقال الضحاك : إن الكلام خرج مخرج التبكيت والتبكيت يكون باستفهام وبغير استفهام ; والمعنى : لو لم تقتل بني إسرائيل لرباني أبواي ; فأي نعمة لك علي ! فأنت تمن علي بما لا يجب أن تمن به . وقيل : معناه كيف تمن بالتربية وقد أهنت قومي ؟ ومن أهين قومه ذل . و ( أن عبدت ) في موضع رفع على البدل من " نعمة " ويجوز أن تكون في موضع نصب بمعنى : لأن عبدت بني إسرائيل ; أي اتخذتهم عبيدا . يقال : عبدته وأعبدته ، بمعنى ; قاله الفراء وأنشد :
علام يعبدني قومي وقد كثرت فيهم أباعر ما شاءوا وعبدان