كذبت ثمود المرسلين ذكر قوله تعالى : قصة صالح وقومه وهم ثمود ; وكانوا يسكنون الحجر كما تقدم في ( الحجر ) وهي ذوات نخل وزروع ومياه . أتتركون في ما هاهنا آمنين يعني في الدنيا آمنين من الموت والعذاب . قال ابن عباس : كانوا معمرين لا يبقى البنيان مع أعمارهم . ودل على هذا قوله : واستعمركم فيها فقرعهم صالح ووبخهم وقال : أتظنون أنكم باقون في الدنيا بلا موت في جنات وعيون : فإن قلت لم قال : " ونخل " بعد قوله : و ( جنات ) والجنات تتناول [ ص: 119 ] النخل أول شيء كما يتناول النعم الإبل كذلك من بين الأزواج حتى إنهم ليذكرون الجنة ولا يقصدون إلا النخل كما يذكرون النعم ولا يريدون إلا الإبل قال الزمخشري زهير :
كأن عيني في غربي مقتلة من النواضح تسقي جنة سحقا
يعني النخل ; والنخلة السحوق البعيدة الطول . قلت : فيه وجهان ; أحدهما : أن يخص النخل بإفراده بعد دخوله في جملة سائر الشجر تنبيها على انفراده عنها بفضله عنها . والثاني : أن يريد بالجنات غيرها من الشجر ; لأن اللفظ يصلح لذلك ثم يعطف عليها النخل . والطلعة هي التي تطلع من النخلة كنصل السيف ; في جوفه شماريخ القنو ، والقنو اسم للخارج من الجذع كما هو بعرجونه وشماريخه . و ( هضيم ) قال ابن عباس : لطيف ما دام في كفراه . والهضيم : اللطيف الدقيق ; ومنه قول امرئ القيس :
[ هصرت بفودي رأسها فتمايلن ] علي هضيم الكشح ريا المخلخل
الجوهري : ويقال للطلع " هضيم " ما لم يخرج من كفراه ; لدخول بعضه في بعض . والهضيم من النساء اللطيفة الكشحين . ونحوه حكى الهروي ; قال : هو المنضم في وعائه قبل أن يظهر ; ومنه رجل هضيم الجنبين أي منضمهما ; هذا قول أهل اللغة . وحكى وغيره في ذلك اثني عشر قولا ، أحدها : أنه الرطب اللين ; قاله الماوردي عكرمة . الثاني : هو المذنب من الرطب ; قاله سعيد بن جبير . قال النحاس : وروى أبو إسحاق عن يزيد - هو ابن أبي زياد كوفي ويزيد بن أبي مريم شامي - ونخل طلعها هضيم قال : منه ما قد أرطب ومنه مذنب . الثالث : أنه الذي ليس فيه نوى ; قاله الحسن . الرابع : أنه المتهشم المتفتت إذا مس تفتت ; قاله مجاهد . وقال أبو العالية : يتهشم في الفم . الخامس : هو الذي قد ضمر بركوب بعضه بعضا ; قاله الضحاك ومقاتل . السادس : أنه المتلاصق بعضه ببعض ; قاله أبو صخر . السابع : أنه الطلع حين يتفرق ويخضر ; قاله الضحاك أيضا . الثامن : أنه اليانع النضيج ; قاله ابن عباس . التاسع : أنه المكتنز قبل أن ينشق عنه القشر ; حكاه ابن شجرة ; قال :
كأن حمولة تجلى عليه هضيم ما يحس له شقوق
العاشر : أنه الرخو ; قاله الحسن . الحادي عشر : أنه الرخص اللطيف أول ما يخرج وهو الطلع النضيد ; قاله الهروي . الثاني عشر : أنه البرني ; قاله ابن الأعرابي ; " فعيل " بمعنى [ ص: 120 ] " فاعل " أي هنيء مريء من انهضام الطعام . والطلع اسم مشتق من الطلوع وهو الظهور ; ومنه طلوع الشمس والقمر والنبات .
وتنحتون من الجبال بيوتا فارهين النحت النجر والبري ; نحته ينحته ( بالكسر ) نحتا إذا براه والنحاتة البراية . والمنحت ما ينحت به . وفي ( والصافات ) قال : أتعبدون ما تنحتون . وكانوا ينحتونها من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع : ( فرهين ) بغير ألف . الباقون : " فارهين " بألف وهما بمعنى واحد في قول أبي عبيدة وغيره ; مثل : " عظاما نخرة " و ( ناخرة ) . وحكاه قطرب . وحكى : فره يفره فهو فاره وفره يفره فهو فره وفاره : إذا كان نشيطا . وهو نصب على الحال . وفرق بينهما قوم فقالوا : فارهين : حاذقين بنحتها ; قاله أبو عبيدة ; وروي عن ابن عباس وأبي صالح وغيرهما . وقال : " فارهين " متجبرين . وروي عن عبد الله بن شداد ابن عباس أيضا أن معنى : ( فرهين ) بغير ألف أشرين بطرين ; وقاله مجاهد . وروي عنه " شرهين " . الضحاك : كيسين . قتادة : معجبين ; قاله الكلبي ; وعنه : ناعمين . وعنه أيضا آمنين ; وهو قول الحسن . وقيل : متخيرين ; قاله الكلبي . ومنه قول الشاعر : والسدي
إلى فره يماجد كل أمر قصدت له لأختبر الطباعا
وقيل : متعجبين ; قاله خصيف . وقال ابن زيد : أقوياء . وقيل : " فرهين " : فرحين ; قاله الأخفش . والعرب تعاقب بين الهاء والحاء ; تقول : مدهته ومدحته ; فالفره الأشر الفرح ثم الفرح بمعنى المرح مذموم ; قال الله تعالى : ولا تمش في الأرض مرحا وقال : إن الله لا يحب الفرحين . فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين قيل : المراد الذين عقروا الناقة . وقيل : التسعة الرهط الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون . قال وغيره : أوحى الله تعالى إلى السدي صالح : إن قومك سيعقرون ناقتك ; فقال لهم ذلك ، فقالوا : ما كنا لنفعل . فقال لهم صالح : إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه ; فقالوا : لا يولد في هذا الشهر ذكر إلا قتلناه . فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر فذبحوا أبناءهم ، ثم ولد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه وكان لم يولد له قبل ذلك . وكان ابن العاشر أزرق أحمر فنبت نباتا سريعا ; وكان إذا مر بالتسعة فرأوه قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء لكانوا [ ص: 121 ] مثل هذا . وغضب التسعة على صالح ; لأنه كان سبب قتلهم أبناءهم فتعصبوا وتقاسموا بالله لنبيتنه وأهله . قالوا : نخرج إلى سفر فترى الناس سفرنا فنكون في غار ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى مسجده أتيناه فقتلناه ، ثم قلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ; فيصدقوننا ويعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر . وكان صالح لا ينام معهم في القرية وكان يأوي إلى مسجده ، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم ، فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فرأى ذلك ناس ممن كان قد اطلع على ذلك ، فصاحوا في القرية : يا عباد الله ! أما رضي صالح أن أمر بقتل أولادهم حتى قتلهم ; فأجمع أهل القرية على قتل الناقة . وقال ابن إسحاق : إنما اجتمع التسعة على سب صالح بعد عقرهم الناقة وإنذارهم بالعذاب على ما يأتي بيانه في سورة ( النمل ) إن شاء الله تعالى .
قالوا إنما أنت من المسحرين هو من السحر في قول مجاهد وقتادة على ما قال المهدوي . أي أصبت بالسحر فبطل عقلك ; لأنك بشر مثلنا فلم تدع الرسالة دوننا . وقيل : من المعللين بالطعام والشراب ; قاله ابن عباس والكلبي وقتادة ومجاهد أيضا فيما ذكر الثعلبي . وهو على هذا القول من السحر وهو الرئة أي بشر لك سحر أي رئة تأكل وتشرب مثلنا كما قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وقال [ امرؤ القيس ] :
ونسحر بالطعام وبالشراب
ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين في قولك . قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم قال ابن عباس : قالوا إن كنت صادقا فادع الله يخرج لنا من هذا الجبل ناقة حمراء عشراء فتضع ونحن ننظر ، وترد هذا الماء فتشرب وتغدو علينا بمثله لبنا . فدعا الله وفعل الله ذلك ف قال هذه ناقة لها شرب أي حظ من الماء ; أي لكم شرب يوم ولها شرب يوم ; فكانت إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله أول النهار وتسقيهم اللبن آخر النهار ، وإذا كان يوم شربهم كان لأنفسهم ومواشيهم وأرضهم ، ليس لهم في يوم ورودها أن يشربوا من شربها شيئا ، ولا لها أن تشرب في يومهم من مائهم شيئا . قال الفراء : " الشرب " الحظ من الماء . قال النحاس : فأما المصدر فيقال فيه شرب شربا وشربا وشربا وأكثرها المضمومة ; لأن [ ص: 122 ] المكسورة والمفتوحة يشتركان مع شيء آخر فيكون الشرب الحظ من الماء ، ويكون الشرب جمع شارب كما قال [ الأعشى ] :فقلت للشرب في درنا وقد ثملوا [ شيموا فكيف يشيم الشارب الثمل ]
إلا أن أبا عمرو بن العلاء يختاران الشرب بالفتح في المصدر ، ويحتجان برواية بعض العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : والكسائي . إنها أيام أكل وشرب ولا تمسوها بسوء لا يجوز إظهار التضعيف هاهنا ; لأنهما حرفان متحركان من جنس واحد . فيأخذكم جواب النهي ، ولا يجوز حذف الفاء منه والجزم كما جاء في الأمر إلا شيئا روي عن الكسائي أنه يجيزه . فعقروها فأصبحوا نادمين أي على عقرها لما أيقنوا بالعذاب . وذلك أنه أنظرهم ثلاثا فظهرت عليهم العلامة في كل يوم ، وندموا ولم ينفعهم الندم عند معاينة العذاب .
وقيل : لم ينفعهم الندم لأنهم لم يتوبوا ، بل طلبوا صالحا عليه السلام ليقتلوه لما أيقنوا بالعذاب . وقيل : كانت ندامتهم على ترك الولد إذ لم يقتلوه معها . وهو بعيد .
( إن في ذلك لآية إلى آخره تقدم . ويقال : إنه ما آمن به من تلك الأمم إلا ألفان وثمانمائة رجل وامرأة . وقيل : كانوا أربعة آلاف . وقال كعب : كان قوم صالح اثني عشر ألف قبيل كل قبيل نحو اثني عشر ألفا من سوى النساء والذرية ، ولقد كان قوم عاد مثلهم ست مرات .