قوله تعالى : وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين .
وما كان ربك مهلك القرى أي القرى الكافر أهلها . حتى يبعث في أمها قرئ بضم الهمزة وكسرها لإتباع الجر ، يعني قوله تعالى : مكة . و ( رسولا ) يعني محمدا صلى الله عليه وسلم . وقيل : في أمها يعني في أعظمها . وقال الحسن : في أوائلها .
[ ص: 277 ] قلت : ومكة أعظم القرى - لحرمتها - وأولها ; لقوله تعالى : إن أول بيت وضع للناس وخصت بالأعظم لبعثة الرسول فيها ; لأن الرسل تبعث إلى الأشراف وهم يسكنون المدائن وهي أم ما حولها . وقد مضى هذا المعنى في آخر سورة ( يوسف ) . يتلو عليهم آياتنا ( يتلو ) في موضع الصفة ، أي تاليا أي يخبرهم أن العذاب ينزل بهم إن لم يؤمنوا وما كنا مهلكي القرى سقطت النون للإضافة ، مثل : ظالمي أنفسهم . أي لم أهلكهم إلا وقد استحقوا الإهلاك لإصرارهم على الكفر بعد الإعذار إليهم وفي هذا بيان لعدله وتقدسه عن الظلم . أخبر تعالى أنه لا يهلكهم إلا إذا استحقوا الإهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجة عليهم ، ونزه ذاته أن يهلكهم وهم غير ظالمين ، كما قال عز من قائل : وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون فنص في قوله ( بظلم ) على أنه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما لهم منه ، وإن حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دل على ذلك بحرف النفي مع لامه كما قال تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم .
قوله تعالى : وما أوتيتم من شيء يا أهل مكة فمتاع الحياة الدنيا وزينتها أي تتمتعون بها مدة حياتكم ، أو مدة في حياتكم ، فإما أن تزولوا عنها أو تزول عنكم وما عند الله خير وأبقى أي أفضل وأدوم ، يريد الدار الآخرة وهي الجنة أفلا تعقلون أن الباقي أفضل من الفاني . قرأ أبو عمرو : ( يعقلون ) بالياء ، الباقون بالتاء على الخطاب وهو الاختيار ; لقوله تعالى : وما أوتيتم أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه يعني الجنة وما فيها من الثواب قال قوله تعالى : ابن عباس : نزلت في حمزة بن عبد المطلب ، وفي أبي جهل بن هشام وقال مجاهد : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل وقال محمد بن كعب : نزلت في حمزة وعلي ، وفي أبي جهل وعمارة بن الوليد وقيل : في عمار والوليد بن المغيرة ; قاله قال السدي القشيري : والصحيح أنها نزلت في المؤمن والكافر على التعميم . الثعلبي : وبالجملة فإنها [ ص: 278 ] نزلت في كل كافر متع في الدنيا بالعافية والغنى وله في الآخرة النار ، وفي كل مؤمن صبر على بلاء الدنيا ثقة بوعد الله وله في الآخرة الجنة .