وهي مكية باتفاق . وهي أربع وأربعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
قوله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع قرأ نافع وابن عامر " سال سايل " بغير همزة . الباقون بالهمز . فمن همز فهو من السؤال . والباء يجوز أن تكون زائدة ، ويجوز أن تكون بمعنى عن . والسؤال بمعنى الدعاء ; أي دعا داع بعذاب ; عن ابن عباس وغيره . يقال : دعا على فلان بالويل ، ودعا عليه بالعذاب . ويقال : دعوت زيدا ; أي التمست إحضاره . أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ; وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة . وعلى هذا فالباء زائدة ; كقوله تعالى : تنبت بالدهن ، وقوله : وهزي إليك بجذع النخلة فهي تأكيد . أي سأل سائل عذابا واقعا .
للكافرين أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل [ ص: 257 ] سؤاله ، وقتل يوم بدر صبرا هو وعقبة بن أبي معيط ; لم يقتل صبرا غيرهما ; قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري . وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : " من كنت مولاه فعلي مولاه " ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ، ونزكي أموالنا فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك ، وأن نحج فقبلناه منك ، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شيء منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله " . فولى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله ; فنزلت : سأل سائل بعذاب واقع الآية . وقيل : إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قاله الربيع . وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش . وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ; وهو واقع بهم لا محالة . وامتد الكلام إلى قوله تعالى : فاصبر صبرا جميلا أي لا تستعجل فإنه قريب . وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع . قال الله تعالى : فاسأل به خبيرا أي سل عنه . وقال علقمة :
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء . ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون فقال الله : للكافرين . قال أبو علي وغيره : وإذا كان من السؤال فأصله أن يتعدى إلى مفعولين ويجوز الاقتصار على أحدهما . وإذا اقتصر على أحدهما جاز أن يتعدى إليه بحرف جر ; فيكون التقدير : سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب . ومن [ ص: 258 ] قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما : أنه لغة في السؤال وهي لغة قريش ; تقول العرب : سال يسال ; مثل نال ينال وخاف يخاف . والثاني : أن يكون من السيلان ; ويؤيده قراءة ابن عباس " سال سيل " . قال عبد الرحمن بن زيد : سال واد من أودية جهنم يقال له : سائل ; وهو قول . قال زيد بن ثابت الثعلبي : والأول أحسن ; كقول الأعشى في تخفيف الهمزة :سالتاني الطلاق إذ رأتاني قل مالي قد جئتماني بنكر
ومرهق سال إمتاعا بأصدته لم يستعن وحوامي الموت تغشاه
سالت هذيل رسول الله فاحشة ضلت هذيل بما سالت ولم تصب
وقال الحسن : أنزل الله تعالى : سأل سائل بعذاب واقع فقال : لمن هو ؟ فقال : للكافرين ; فاللام في الكافرين متعلقة ب " واقع " . وقال الفراء : التقدير بعذاب للكافرين واقع ; فالواقع من نعت العذاب ، واللام دخلت للعذاب لا للواقع ، أي هذا العذاب للكافرين في الآخرة لا يدفعه عنهم أحد . وقيل إن اللام بمعنى على ، والمعنى : واقع على الكافرين . وروي أنها في قراءة أبي كذلك . وقيل : بمعنى عن ; أي ليس له دافع عن الكافرين من الله . [ ص: 259 ] أي ذلك العذاب من الله ذي المعارج أي ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم ; قاله ابن عباس وقتادة فالمعارج مراتب إنعامه على الخلق وقيل ذي العظمة والعلاء وقال مجاهد : هي معارج السماء . وقيل : هي معارج الملائكة ; لأن الملائكة تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك . وقيل : المعارج الغرف ; أي إنه ذو الغرف ، أي جعل لأوليائه في الجنة غرفا . وقرأ عبد الله " ذي المعاريج " بالياء . يقال : معرج ومعراج ومعارج ومعاريج ; مثل مفتاح ومفاتيح . والمعارج الدرجات ; ومنه : ومعارج عليها يظهرون .
تعرج الملائكة والروح أي تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم . وقرأ ابن مسعود وأصحابه والسلمي " يعرج " بالياء على إرادة الجمع ; ولقوله : ذكروا الملائكة ولا تؤنثوهم . وقرأ الباقون بالتاء على إرادة الجماعة . والروح جبريل عليه السلام ; قاله والكسائي ابن عباس . دليله قوله تعالى : نزل به الروح الأمين . وقيل : هو ملك آخر عظيم الخلقة . وقال أبو صالح : إنه خلق من خلق الله كهيئة الناس وليس بالناس . قال : إنه روح الميت حين يقبض . " إليه " أي إلى المكان الذي هو محلهم وهو في السماء ; لأنها محل بره وكرامته . وقيل : هو كقول قبيصة بن ذؤيب إبراهيم : إني ذاهب إلى ربي . أي إلى الموضع الذي أمرني به . وقيل :
" إليه " أي إلى عرشه .
في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة قال وهب والكلبي : أي عروج الملائكة إلى المكان الذي هو محلهم في وقت كان مقداره على غيرهم لو صعد خمسين ألف سنة . وقال ومحمد بن إسحاق وهب أيضا : ما بين أسفل الأرض إلى العرش مسيرة خمسين ألف سنة . وهو قول مجاهد . وجمع بين هذه الآية وبين قوله : في يوم كان مقداره ألف سنة في سورة السجدة ، فقال : في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات خمسون ألف سنة . وقوله تعالى في ( الم تنزيل ) : في يوم كان مقداره ألف سنة يعني بذلك نزول الأمر من سماء الدنيا إلى الأرض ، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام . وعن مجاهد أيضا والحكم وعكرمة : هو من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنة . لا يدري أحد كم مضى ولا كم بقي إلا الله عز وجل . وقيل : المراد يوم القيامة ، أي مقدار مدة عمر الدنيا الحكم فيه لو تولاه مخلوق [ ص: 260 ] خمسون ألف سنة ، قاله عكرمة أيضا والكلبي . يقول سبحانه وتعالى وأنا أفرغ منه في ساعة . وقال ومحمد بن كعب الحسن : هو يوم القيامة ، ولكن يوم القيامة لا نفاد له . فالمراد ذكر موقفهم للحساب فهو في خمسين ألف سنة من سني الدنيا ، ثم حينئذ يستقر أهل الدارين في الدارين . وقال يمان : هو يوم القيامة ، فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة . وقال ابن عباس : هو يوم القيامة ، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، ثم يدخلون النار للاستقرار .
قلت : وهذا القول أحسن ما قيل في الآية إن شاء الله ، بدليل ما رواه من حديث قاسم بن أصبغ قال : أبي سعيد الخدري في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة . فقلت : ما أطول هذا ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده إنه ليخفف عن المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة المكتوبة يصليها في الدنيا " . واستدل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : النحاس على صحة هذا القول بما رواه سهيل عن أبيه عن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أبي هريرة . قال : فهذا يدل على أنه يوم القيامة . وقال " ما من رجل لم يؤد زكاة مال إلا جعل شجاعا من نار تكوى به جبهته وظهره وجنباه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي الله بين الناس " إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا قدر ما بين الظهر والعصر . وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين ؛ ولذلك سمى نفسه سريع الحساب وأسرع الحاسبين " . ذكره . وقيل : بل يكون الفراغ لنصف يوم ، كقوله تعالى : الماوردي أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا . وهذا على قدر فهم الخلائق ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن . وكما يرزقهم في ساعة كذا يحاسبهم في لحظة ، قال الله تعالى : ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة . وعن ابن عباس أيضا أنه سئل عن هذه الآية وعن قوله تعالى : في يوم كان مقداره ألف سنة فقال : أيام سماها الله عز وجل هو أعلم بها كيف تكون ، وأكره أن أقول فيها ما لا أعلم . وقيل : معنى ذكر خمسين ألف سنة [ ص: 261 ] تمثيل ، وهو تعريف طول مدة القيامة في الموقف ، وما يلقى الناس فيه من الشدائد . والعرب تصف أيام الشدة بالطول ، وأيام الفرح بالقصر ; قال الشاعر :
ويوم كظل الرمح قصر طوله دم الزق عنا واصطفاق المزاهر