مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش الآية . وقيل : اثنتان وستون آية . وقيل : إن السورة كلها مدنية . والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وفي عن البخاري ابن عباس : وعن أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس عبد الله عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا ، متفق عليه . الرجل يقال له أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ; فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا . قال أمية بن خلف . وفي الصحيحين عن رضي الله عنه أنه زيد بن ثابت والنجم إذا هوى فلم يسجد . وقد مضى في آخر " الأعراف " القول في هذا والحمد لله . قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة
[ ص: 77 ] بسم الله الرحمن الرحيم
والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى
والنجم إذا هوى قال قوله تعالى : ابن عباس ومجاهد : معنى والنجم إذا هوى والثريا إذا سقطت مع الفجر ; والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما ; يقال : إنها سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وفي ( الشفا ) : للقاضي عياض أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما . وعن مجاهد أيضا أن المعنى : والقرآن إذا نزل ; لأنه كان ينزل نجوما . وقاله الفراء . وعنه أيضا : يعني نجوم السماء كلها حين تغرب . وهو قول الحسن قال : أقسم الله بالنجوم إذا غابت . وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع ; كقول الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال عمر بن أبي ربيعة :أحسن النجم في السماء الثريا والثريا في الأرض زين النساء
من يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
فشج بها الأماعز وهي تهوي هوي الدلو أسلمها الرشاء
بينما نحن بالبلاكث فالقا ع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة على القلب من ذكراك وهنا فما استطعت مضيا
وكم منزل لولاي طحت كما هوى بأجرامه من قلة النيق منهوي
قوله تعالى : ما ضل صاحبكم هذا جواب القسم ; أي ما ضل محمد صلى الله عليه وسلم عن [ ص: 79 ] الحق وما حاد عنه .
وما غوى الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا . وقيل : أي ما تكلم بالباطل . وقيل : أي ما خاب مما طلب والغي : الخيبة ; قال الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وما ينطق عن الهوى قوله تعالى : إن هو إلا وحي يوحى .
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى قال قتادة : وما ينطق بالقرآن عن هواه وقيل : عن الهوى أي بالهوى ; قاله أبو عبيدة ; كقوله تعالى : فاسأل به خبيرا أي فاسأل عنه . النحاس : قول قتادة أولى ، وتكون " عن " على بابها ، أي ما يخرج نطقه عن رأيه ، إنما هو بوحي من الله عز وجل ; لأن بعده : إن هو إلا وحي يوحى .
إن هو إلا وحي يوحى الثانية : قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الحوادث . وفيها أيضا دلالة على أن . وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث السنة كالوحي المنزل في العمل في ذلك والحمد لله . قال المقدام بن معدي كرب السجستاني : إن شئت أبدلت إن هو إلا وحي يوحى من ما ضل صاحبكم قال ابن الأنباري : وهذا غلط ; لأن " إن " الخفيفة لا تكون مبدلة من " ما " ؛ الدليل على هذا أنك لا تقول : والله ما قمت إن أنا لقاعد .
قوله تعالى : علمه شديد القوى يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين ; سوى الحسن فإنه قال : هو الله عز وجل ، ويكون قوله تعالى : ذو مرة على قول الحسن تمام الكلام ، ومعناه ذو قوة ; وأصله من شدة فتل الحبل ، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل . والقوة من صفات الله تعالى
ثم قال : فاستوى يعني الله عز وجل ; أي : استوى على العرش . روي معناه عن الحسن . وقال الربيع بن أنس والفراء : فاستوى وهو بالأفق الأعلى أي : استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام . وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب " هو " . وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه ; فيقولون : استوى هو وفلان ; وقلما يقولون استوى وفلان ; وأنشد الفراء : [ ص: 80 ]
ألم تر أن النبع يصلب عوده ولا يستوي والخروع المتقصف
كنت فيهم أبدا ذا حيلة محكم المرة مأمون العقد
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه
ترى الرجل النحيف فتزدريه وحشو ثيابه أسد مرير
حتى استمرت على شزر مريرته مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني فيما ينوب من الخطوب صليب
قلت : وعلى الأول يكون تمام الكلام ذو مرة ، وعلى الثاني شديد القوى . وقول خامس أن معناه فارتفع . وفيه على هذا وجهان ؛ أحدهما : أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفا ، الثاني : أنه النبي صلى الله عليه وسلم ارتفع بالمعراج . وقول سادس [ ص: 82 ] فاستوى يعني الله عز وجل ، أي : استوى على العرش على قول الحسن . وقد مضى القول فيه في " الأعراف " . قوله تعالى : وهو بالأفق الأعلى جملة في موضع الحال ، والمعنى فاستوى عاليا ، أي : استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا . والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق . وقال قتادة : هو الموضع الذي تأتي منه الشمس . وكذا قال سفيان : هو الموضع الذي تطلع منه الشمس . ونحوه عن مجاهد . ويقال : أفق وأفق مثل عسر وعسر . وقد مضى في " حم السجدة " . وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى ; قال الشاعر [ عمرو بن قنعاس المرادي ] :
أرجل لمتي وأجر ذيلي وتحمل شكتي أفق كميت
قوله تعالى : ثم دنا فتدلى أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض فتدلى فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي . المعنى أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من عظمته ما رأى ، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي ، وذلك قوله تعالى : فأوحى إلى عبده يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل قاب قوسين أو أدنى ؛ قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم . وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى : ثم دنا فتدلى أن معناه أن الله تبارك وتعالى دنا من محمد صلى الله عليه وسلم فتدلى . وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم . والمعنى : دنا منه أمره وحكمه . وأصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب ; قال لبيد :
فتدليت عليه قافلا وعلى الأرض غيابات الطفل
فكان قاب قوسين أو أدنى أي ( كان ) قوله تعالى : محمد من ربه أو من جبريل ( قاب قوسين ) أي قدر قوسين عربيتين ؛ قاله ابن عباس وعطاء والفراء . : فإن قلت كيف تقدير قوله : الزمخشري فكان قاب قوسين قلت : تقديره : فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين ، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله :
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا
أي ذا مقدار مسافة إصبع أو أدنى أي على تقديركم ; كقوله تعالى : أو يزيدون . وفي الصحاح : وتقول بينهما قاب قوس ، وقيب قوس وقاد قوس ، وقيد قوس ; أي قدر قوس . وقرأ زيد بن علي " قاد " وقرئ " قيد " و " قدر " . ذكره . والقاب ما بين المقبض والسية . ولكل قوس قابان . وقال بعضهم في قوله تعالى : الزمخشري قاب قوسين أراد قابي قوس فقلبه . وفي الحديث : والقد السوط . وفي الصحيح عن ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة . وإنما ضرب المثل [ ص: 84 ] بالقوس ، لأنها لا تختلف في القاب . والله أعلم . قال ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها القاضي عياض : اعلم أن ما وقع من إضافة أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى ، وإنما دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه وقربه منه - إبانة عظيم منزلته ، وتشريف رتبته ، وإشراق أنوار معرفته ، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته . ومن الله تعالى له مبرة وتأنيس وبسط وإكرام . الدنو والقرب من اللهويتأول في ينزل ربنا إلى سماء الدنيا على أحد الوجوه : نزول إجمال وقبول وإحسان . قال القاضي : وقوله : قوله عليه السلام : فكان قاب قوسين أو أدنى فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب ، ولطف المحل ، وإيضاح المعرفة ، والإشراف على الحقيقة من محمد صلى الله عليه وسلم ، وعبارة عن إجابة الرغبة ، وقضاء المطالب ، وإظهار التحفي ، وإنافة المنزلة والقرب من الله ; ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام : قرب بالإجابة والقبول ، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول . وقد قيل : ثم دنا من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة جبريل من ربه فكان قاب قوسين أو أدنى ؛ قاله مجاهد . ويدل عليه ما روي في الحديث : إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام . وقيل : أو بمعنى الواو أي : قاب قوسين وأدنى . وقيل : بمعنى بل أي بل أدنى . وقال : القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ، ولكل قوس قاب واحد . فأخبر أن سعيد بن المسيب جبريل قرب من محمد صلى الله عليه وسلم كقرب قاب قوسين . وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني : وأبو وائل شقيق بن سلمة فكان قاب قوسين أي قدر ذراعين ، والقوس الذراع يقاس بها كل شيء ، وهي لغة بعض الحجازيين . وقيل : هي لغة أزد شنوءة أيضا . وقال الكسائي : قوله : فكان قاب قوسين أو أدنى أراد قوسا واحدا ; كقول الشاعر : [ ص: 85 ]
ومهمهين قذفين مرتين قطعته بالسمت لا بالسمتين
ووتر الأساور القياسا والقوس أيضا بقية التمر
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس
قوله تعالى : فأوحى إلى عبده ما أوحى تفخيم للوحي الذي أوحي إليه . وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه : الوحاء الوحاء . والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى . وقيل : المعنى فأوحى إلى عبده جبريل عليه السلام ما أوحى . وقيل : المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى إليه ربه ؛ قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة . قال قتادة : أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد . ثم قيل : هذا الوحي هل هو مبهم ؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالإيمان به على الجملة ، أو هو معلوم مفسر ؟ قولان ؛ وبالثاني قال سعيد بن جبير ، قال : أوحى الله إلى محمد : ألم أجدك يتيما فآويتك ! ألم أجدك ضالا فهديتك ! ألم أجدك عائلا فأغنيتك ! ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ورفعنا لك ذكرك . وقيل : أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد ، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك .