[ ص: 121 ] كذبت قبلهم قوم نوح ذكر جملا من وقائع الأمم الماضية تأنيسا للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له . قبلهم أي قبل قومك . قوله تعالى :
فكذبوا عبدنا يعني نوحا . : فإن قلت ما معنى قوله : فكذبوا بعد قوله : كذبت ؟ قلت : معناه كذبوا فكذبوا عبدنا ; أي كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب ، أو كذبت قوم الزمخشري نوح الرسل فكذبوا عبدنا ; أي لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل .
وقالوا مجنون أي هو مجنون وازدجر أي زجر عن دعوى النبوة بالسب والوعيد بالقتل . وقيل إنما قال : وازدجر بلفظ ما لم يسم فاعله لأنه رأس آية .
فدعا ربه أي دعا عليهم حينئذ نوح وقال رب أني مغلوب أني مغلوب أي غلبوني بتمردهم فانتصر أي فانتصر لي . وقيل : إن الأنبياء كانوا لا يدعون على قومهم بالهلاك إلا بإذن الله عز وجل لهم فيه .
ففتحنا أبواب السماء أي فأجبنا دعاءه وأمرناه باتخاذ السفينة وفتحنا أبواب السماء بماء منهمر أي كثير ; قاله . قال الشاعر : السدي
أعيني جودا بالدموع الهوامر على خير باد من معد وحاضر
وقيل : إنه المنصب المتدفق ; ومنه قول امرئ القيس يصف غيثا :راح تمريه الصبا ثم انتحى فيه شؤبوب جنوب منهمر
وفجرنا الأرض عيونا قال : أوحى الله إلى الأرض أن تخرج ماءها فتفجرت بالعيون ، وإن عينا تأخرت فغضب عليها فجعل ماءها مرا أجاجا إلى يوم القيامة . عبيد بن عمير
فالتقى الماء أي ماء السماء وماء الأرض على أمر قد قدر أي على مقدار لم يزد أحدهما على الآخر ; حكاه . أي كان ماء السماء والأرض سواء . وقيل : قدر بمعنى قضي عليهم . قال ابن قتيبة قتادة : قدر لهم إذا [ ص: 122 ] كفروا أن يغرقوا . وقال محمد بن كعب : كانت الأقوات قبل الأجساد ، وكان القدر قبل البلاء ; وتلا هذه الآية . وقال : التقى الماء ، والالتقاء إنما يكون في اثنين فصاعدا ; لأن الماء يكون جمعا وواحدا . وقيل : لأنهما لما اجتمعا صارا ماء واحدا . وقرأ الجحدري : " فالتقى الماءان " . وقرأ الحسن : " فالتقى الماوان " وهما خلاف المرسوم . القشيري : وفي بعض المصاحف " فالتقى الماوان " وهي لغة طيئ . وقيل : كان ماء السماء باردا مثل الثلج وماء الأرض حارا مثل الحميم .
وحملناه على ذات ألواح أي على سفينة ذات ألواح .
ودسر قال قتادة : يعني المسامير التي دسرت بها السفينة أي شدت ; وقاله القرظي وابن زيد ورواه وابن جبير الوالبي عن ابن عباس . وقال الحسن وشهر بن حوشب وعكرمة : هي صدر السفينة التي تضرب بها الموج سميت بذلك لأنها تدسر الماء أي تدفعه ، والدسر الدفع والمخر ; ورواه العوفي عن ابن عباس قال : الدسر كلكل السفينة . وقال الليث : الدسار خيط من ليف تشد به ألواح السفينة . وفي الصحاح : الدسار واحد الدسر وهي خيوط تشد بها ألواح السفينة ، ويقال : هي المسامير ، وقال تعالى : على ذات ألواح ودسر . ودسر أيضا مثل عسر وعسر . والدسر الدفع ; قال ابن عباس في العنبر : إنما هو شيء يدسره البحر دسرا أي يدفعه . ودسره بالرمح . ورجل مدسر .
تجري بأعيننا أي بمرأى منا . وقيل : بأمرنا . وقيل : بحفظ منا وكلاءة : وقد مضى في " هود " . ومنه قول الناس للمودع : عين الله عليك ; أي حفظه وكلاءته . وقيل : بوحينا . وقيل : أي بالأعين النابعة من الأرض . وقيل : بأعين أوليائنا من الملائكة الموكلين بحفظها ، وكل ما خلق الله تعالى يمكن أن يضاف إليه . وقيل : أي تجري بأوليائنا ، كما في الخبر : مرض عين من عيوننا فلم تعده .
جزاء لمن كان كفر أي جعلنا ذلك ثوابا وجزاء لنوح على صبره على أذى قومه وهو المكفور به ; فاللام في " لمن " لام المفعول له ; وقيل : كفر أي جحد ; ف " من " كناية عن نوح . وقيل : كناية عن الله والجزاء بمعنى العقاب ; أي عقابا لكفرهم بالله تعالى . وقرأ يزيد بن رومان وقتادة ومجاهد وحميد " جزاء لمن كان كفر " بفتح الكاف والفاء بمعنى : كان الغرق جزاء وعقابا لمن كفر بالله ، وما نجا من الغرق غير عوج بن عنق ; كان الماء إلى حجزته . وسبب نجاته أن نوحا احتاج إلى خشبة الساج لبناء السفينة فلم يمكنه حملها ، فحمل عوج تلك [ ص: 123 ] الخشبة إليه من الشام فشكر الله له ذلك ، ونجاه من الغرق .
ولقد تركناها آية يريد هذه الفعلة عبرة . وقيل : أراد السفينة تركها آية لمن بعد قوم نوح يعتبرون بها فلا يكذبون الرسل . قال قتادة : أبقاها الله بباقردى من أرض الجزيرة عبرة وآية ، حتى نظرت إليها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة كانت بعدها فصارت رمادا .
فهل من مدكر متعظ خائف ، وأصله مذتكر مفتعل من الذكر ، فثقلت على الألسنة فقلبت التاء دالا لتوافق الذال في الجهر وأدغمت الذال فيها .
فكيف كان عذابي ونذر أي إنذاري ، قال الفراء : الإنذار والنذر مصدران . وقيل : نذر جمع نذير ونذير بمعنى الإنذار كنكير بمعنى الإنكار .
ولقد يسرنا القرآن للذكر أي سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه ; فهل من طالب لحفظه فيعان عليه ؟ ويجوز أن يكون المعنى : ولقد هيأناه للذكر ، مأخوذ من يسر ناقته للسفر : إذا رحلها ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه ; قال : وقمت إليه باللجام ميسرا هنالك يجزيني الذي كنت أصنع
وقال سعيد بن جبير : ليس من كتب الله كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن ; وقال غيره : ولم يكن هذا لبني إسرائيل ، ولم يكونوا يقرءون التوراة إلا نظرا ، غير موسى وهارون ويوشع بن نون وعزير صلوات الله عليهم ، ومن أجل ذلك افتتنوا بعزير لما كتب لهم التوراة عن ظهر قلبه حين أحرقت ; على ما تقدم بيانه في سورة ( براءة ) فيسر الله تعالى على هذه الأمة حفظ كتابه ليذكروا ما فيه ; أي يفتعلوا الذكر ، والافتعال هو أن ينجع فيهم ذلك حتى يصير كالذات وكالتركيب فيهم .
فهل من مدكر قارئ يقرؤه . وقال أبو بكر الوراق : فهل من طالب خير وعلم فيعان عليه ، وكرر في هذه السورة للتنبيه والإفهام . وقيل : إن الله تعالى اقتص في هذه السورة على هذه الأمة أنباء الأمم وقصص المرسلين ، وما عاملتهم به الأمم ، وما كان من عقبى أمورهم وأمور المرسلين ; فكان في كل قصة ونبإ ذكر للمستمع أن لو ادكر ، وإنما كرر هذه الآية عند ذكر كل قصة بقوله : وابن شوذب فهل من مدكر لأن هل كلمة استفهام تستدعي أفهامهم التي ركبت في أجوافهم وجعلها حجة عليهم ; فاللام من " هل " للاستعراض والهاء للاستخراج .