قوله تعالى : فمال الذين كفروا قبلك مهطعين قال الأخفش : مسرعين . قال :
بمكة أهلها ولقد أراهم إليه مهطعين إلى السماع
والمعنى : ما بالهم يسرعون إليك ويجلسون حواليك ولا يعملون بما تأمرهم . وقيل : أي ما بالهم مسرعين في التكذيب لك . وقيل : أي ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع منك ليعيبوك ويستهزئوا بك . وقال عطية : مهطعين : معرضين . الكلبي : ناظرين إليك تعجبا . وقال قتادة : عامدين . والمعنى متقارب ; أي ما بالهم مسرعين عليك ، مادين أعناقهم ، مدمني النظر إليك . وذلك من نظر العدو . وهو منصوب على الحال . نزلت في جمع من المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه - عليه السلام - ولا يؤمنون به . و " قبلك " أي نحوك .عن اليمين وعن الشمال عزين أي عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات . والعزين : جماعات في تفرقة ، قاله أبو عبيدة . ومنه حديث خرجه النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه فرآهم حلقا فقال : " مالي أراكم عزين . ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها . قالوا : وكيف تصف الملائكة عند ربها ؟ قال : يتمون الصفوف الأول ويتراصون في الصف " مسلم وغيره . وقال الشاعر :
ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقا عزينا
أخليفة الرحمن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزينا
كأن الجماجم من وقعها خناطيل يهوين شتى عزينا
فلما أن أتين على أضاخ ضرحن حصاه أشتاتا عزينا
ونحن وجندل باغ تركنا كتائب جندل شتى عزينا
وقرن قد تركت لذي ولي عليه الطير كالعصب العزين
أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم قال المفسرون : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فيكذبونه ويكذبون عليه ، ويستهزئون بأصحابه ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنها قبلهم ، ولئن أعطوا منها شيئا لنعطين أكثر منه ; فنزلت : " أيطمع . . . " الآية . وقيل : كان المستهزئون خمسة أرهط . وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف " أن يدخل " بفتح الياء وضم الخاء مسمى الفاعل . ورواه والأعرج المفضل عن عاصم . الباقون " أن يدخل " على الفعل المجهول .
" كلا " لا يدخلونها .
ثم ابتدأ فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون أي إنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ; كما خلق سائر جنسهم . فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، [ ص: 270 ] وإنما تستوجب بالإيمان والعمل الصالح ورحمة الله تعالى . وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم . فقال : إنا خلقناهم مما يعلمون من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر . وقال قتادة في هذه الآية : إنما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتق الله . وروي أن رأى مطرف بن عبد الله بن الشخير يتبختر في مطرف خز وجبة خز فقال له : يا المهلب بن أبي صفرة عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله ؟ فقال له : أتعرفني ؟ قال : نعم ، أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت فيما بين ذلك تحمل العذرة . فمضى المهلب وترك مشيته . نظم الكلام محمود الوراق فقال :
عجبت من معجب بصورته وكان في الأصل نطفة مذره
وهو غدا بعد حسن صورته يصير في اللحد جيفة قذره
وهو على تيهه ونخوته ما بين ثوبيه يحمل العذره
هل في ابن آدم غير الرأس مكرمة وهو بخمس من الأوساخ مضروب
أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرمصة والثغر ملهوب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا قصر فإنك مأكول ومشروب
أأزمعت من آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن تزارا