عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا فيه مسألتان : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : عالم الغيب ، عالم رفعا نعتا لقوله : ربي . وقيل : أي هو عالم الغيب والغيب ما غاب عن العباد . وقد تقدم بيانه في سورة ( البقرة ) فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ; لأن وفي التنزيل : وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم . الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات ;
وقال : ( ابن جبير إلا من ارتضى من رسول ) هو جبريل - عليه السلام - . وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى : أي لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى أي اصطفى للنبوة ، فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه : ليكون ذلك دالا على نبوته .
[ ص: 27 ] قال العلماء - رحمة الله عليهم - : لما تمدح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأودعهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوتهم . وليس المنجم ومن ضاهاه ممن يضرب بالحصى وينظر في الكتب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه .
قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم ، وتباين رتبهم ، فيهم الملك والسوقة ، والعالم والجاهل ، والغني والفقير ، والكبير والصغير ، مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ; فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ؟ فإن قال المنجم - قبحه الله - : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم . وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم ، ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
حكم المنجم أن طالع مولدي يقضي علي بميتة الغرق قل للمنجم صبحة الطوفان
هل ولد الجميع بكوكب الغرق
فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا يعني ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطان ; فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة . قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبهوا بصورة الملك ، فإذا جاءه شيطان في صورة الملك قالوا : هذا شيطان فاحذره . وإن جاءه الملك قالوا : هذا رسول ربك .
وقال ابن عباس وابن زيد : رصدا أي حفظة يحفظون النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمامه وورائه من الجن والشياطين . قال قتادة : هم أربعة من الملائكة حفظة . وسعيد بن المسيب
وقال الفراء : المراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجن الوحي ، فيلقوه إلى كهنتهم ، فيسبقوا الرسول .
وقال : رصدا أي حفظة يحفظون الوحي ، فما جاء من عند الله قالوا : إنه من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان . و ( رصدا ) نصب على المفعول . السدي
وفي الصحاح : والرصد القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا أرصادا . والراصد للشيء الراقب له ; يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا . والترصد الترقب والمرصد موضع الرصد .