ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام قيل : هذا تأكيد للأمر باستقبال قوله تعالى : الكعبة واهتمام بها لأن موقع التحويل كان صعبا في نفوسهم جدا ، فأكد الأمر ليرى الناس الاهتمام به فيخف عليهم وتسكن نفوسهم إليه . وقيل : أراد بالأول : ول وجهك شطر الكعبة ، أي عاينها إذا صليت تلقاءها . ثم قال : وحيثما كنتم معاشر المسلمين في سائر المساجد بالمدينة وغيرها فولوا وجوهكم شطره ثم قال ومن حيث خرجت يعني وجوب الاستقبال في الأسفار ، فكان هذا أمرا بالتوجه إلى الكعبة في جميع المواضع من نواحي الأرض .
قلت : هذا القول أحسن من الأول ; لأن فيه حمل كل آية على فائدة . وقد روى عن الدارقطني أنس بن مالك قال : . أخرجه كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في سفر فأراد أن يصلي على راحلته استقبل القبلة وكبر ثم صلى حيث توجهت به أبو داود أيضا ، وبه قال الشافعي وأحمد . وذهب وأبو ثور مالك إلى أنه لا يلزمه الاستقبال ، لحديث ابن عمر قال : مكة إلى المدينة على راحلته . قال : وفيه نزل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وهو مقبل من فأينما تولوا فثم وجه الله وقد تقدم .
قلت : ولا تعارض بين الحديثين ; لأن هذا من باب المطلق والمقيد ، فقول [ ص: 158 ] أولى ، وحديث الشافعي أنس في ذلك حديث صحيح . ويروى أن سئل ما جعفر بن محمد ؟ فقال : علم الله أن كل الناس لا يحفظ القرآن ، فلو لم تكن القصة مكررة لجاز أن تكون عند بعض الناس ولا تكون عند بعض ، فكررت لتكون عند من حفظ البعض . معنى تكرير القصص في القرآن
لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم قال قوله تعالى : مجاهد : هم مشركو العرب . وحجتهم قولهم : راجعت قبلتنا ، وقد أجيبوا عن هذا بقوله : قل لله المشرق والمغرب . وقيل : معنى لئلا يكون للناس عليكم حجة لئلا يقولوا لكم : قد أمرتم باستقبال الكعبة ولستم ترونها ، فلما قال عز وجل : وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره زال هذا . وقال أبو عبيدة : إن " إلا " ها هنا بمعنى الواو ، أي والذين ظلموا ، فهو استثناء بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر [ هو ] : الفرزدق
ما بالمدينة دار غير واحدة دار الخليفة إلا دار مروانا
كأنه قال : إلا دار الخليفة ودار مروان ، وكذا قيل في قوله تعالى : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون أي الذين آمنوا . وأبطل الزجاج هذا القول وقال : هذا خطأ عند الحذاق من النحويين ، وفيه بطلان المعاني ، وتكون إلا وما بعدها مستغنى عن ذكرهما . والقول عندهم أن هذا استثناء ليس من الأول ، أي لكن الذين ظلموا منهم فإنهم يحتجون . قال : أي عرفكم الله أمر الاحتجاج في القبلة في قوله : أبو إسحاق الزجاج ولكل وجهة هو موليها لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له ، كما تقول : ما لك علي حجة إلا الظلم أو إلا أن تظلمني ، أي ما لك حجة ألبتة ولكنك تظلمني ، فسمى ظلمه حجة لأن المحتج به سماه حجة وإن كانت داحضة . وقال قطرب : يجوز أن يكون المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا على الذين ظلموا ، فالذين بدل من الكاف والميم في عليكم . وقالت فرقة : إلا الذين استثناء متصل ، روي معناه عن ابن عباس وغيره ، واختاره الطبري وقال : نفى الله أن يكون لأحد حجة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في استقبالهم الكعبة . والمعنى : لا حجة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة . حيث قالوا : ما ولاهم ، وتحير محمد في دينه ، وما توجه إلى قبلتنا إلا أنا كنا أهدى منه ، وغير ذلك من الأقوال التي لم تنبعث إلا من عابد وثن أو يهودي أو منافق . والحجة بمعنى المحاجة التي هي المخاصمة والمجادلة . وسماها الله حجة وحكم بفسادها حيث كانت من ظلمة . وقال ابن عطية : وقيل إن الاستثناء منقطع ، وهذا على أن يكون المراد بالناس اليهود ، ثم استثنى كفار [ ص: 159 ] العرب ، كأنه قال : لكن الذين ظلموا يحاجونكم ، وقوله منهم يرد هذا التأويل . والمعنى لكن الذين ظلموا ، يعني كفار قريش في قولهم : رجع محمد إلى قبلتنا وسيرجع إلى ديننا كله . ويدخل في ذلك كل من تكلم في النازلة من غير اليهود . وقرأ ابن عباس وزيد بن علي وابن زيد " ألا الذين ظلموا " بفتح الهمزة وتخفيف اللام على معنى استفتاح الكلام ، فيكون الذين ظلموا ابتداء ، أو على معنى الإغراء ، فيكون الذين منصوبا بفعل مقدر .
يريد الناس قوله تعالى : فلا تخشوهم واخشوني الخشية أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التوقي . والخوف : فزع القلب تخف له الأعضاء ، ولخفة الأعضاء به سمي خوفا . ومعنى الآية التحقير لكل من سوى الله تعالى ، والأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى .
معطوف على لئلا يكون أي ولأن أتم ، قاله قوله تعالى : ولأتم نعمتي عليكم الأخفش . وقيل : مقطوع في موضع رفع بالابتداء والخبر مضمر ، التقدير : ولأتم نعمتي عليكم عرفتكم قبلتي ، قالهالزجاج . وإتمام النعمة الهداية إلى القبلة ، وقيل : دخول الجنة . قال سعيد بن جبير : ولم تتم نعمة الله على عبد حتى يدخله الجنة .
ولعلكم تهتدون تقدم .