إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين قوله تعالى : خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : وهم كفار الواو واو الحال . قال : قال لي كثير من أشياخي إن ابن العربي ; لأن حاله عند الموافاة لا تعلم ، وقد شرط الله تعالى [ ص: 177 ] في هذه الآية في إطلاق اللعنة : الموافاة على الكفر ، وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن أقواما بأعيانهم من الكفار فإنما كان ذلك لعلمه بمآلهم . قال الكافر المعين لا يجوز لعنه : والصحيح عندي جواز لعنه لظاهر حاله ولجواز قتله وقتاله ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ابن العربي اللهم إن عمرو بن العاص هجاني وقد علم أني لست بشاعر فالعنه واهجه عدد ما هجاني . فلعنه ، وإن كان الإيمان والدين والإسلام مآله . وانتصف بقوله : ( عدد ما هجاني ) ولم يزد ليعلم العدل والإنصاف . وأضاف الهجو إلى الله تعالى في باب الجزاء دون الابتداء بالوصف بذلك ، كما يضاف إليه المكر والاستهزاء والخديعة ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا .
قلت : أما فلا خلاف في ذلك ، لما رواه لعن الكفار جملة من غير تعيين مالك عن أنه سمع داود بن الحصين يقول : ما أدركت الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان . قال علماؤنا : وسواء كانت لهم ذمة أم لم تكن ، وليس ذلك بواجب ، ولكنه مباح لمن فعله ، لجحدهم الحق وعداوتهم للدين وأهله ، وكذلك كل من جاهر بالمعاصي كشراب الخمر وأكلة الربا ، ومن تشبه من النساء بالرجال ومن الرجال بالنساء ، إلى غير ذلك مما ورد في الأحاديث لعنه . الأعرج
الثانية : ليس لعن الكافر بطريق الزجر له عن الكفر ، بل هو جزاء على الكفر وإظهار قبح كفره ، كان الكافر ميتا أو مجنونا . وقال قوم من السلف : إنه لا فائدة في لعن من جن أو مات منهم ، لا بطريق الجزاء ولا بطريق الزجر ، فإنه لا يتأثر به .
والمراد بالآية على هذا المعنى أن الناس يلعنونه يوم القيامة ليتأثر بذلك ويتضرر ويتألم قلبه ، فيكون ذلك جزاء على كفره ، كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ، ويدل على هذا القول أن الآية دالة على الإخبار عن الله تعالى بلعنهم ، لا على الأمر . وذكر أن ابن العربي لا يجوز اتفاقا ، لما روي لعن العاصي المعين فجعل له حرمة الأخوة ، وهذا يوجب الشفقة ، وهذا حديث صحيح . عن النبي أنه أتي بشارب خمر مرارا ، فقال بعض من حضره : لعنه الله ، ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم
[ ص: 178 ] قلت : خرجه البخاري ومسلم ، وقد ذكر بعض العلماء خلافا في لعن العاصي المعين ، قال : وإنما قال عليه السلام : في حق لا تكونوا عون الشيطان على أخيكم نعيمان بعد إقامة الحد عليه ، ومن أقيم عليه حد الله تعالى فلا ينبغي لعنه ، ومن لم يقم عليه الحد فلعنته جائزة سواء سمي أو عين أم لا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يلعن إلا من تجب عليه اللعنة ما دام على تلك الحالة الموجبة للعن ، فإذا تاب منها وأقلع وطهره الحد فلا لعنة تتوجه عليه . وبين هذا قوله صلى الله عليه وسلم : . فدل هذا الحديث مع صحته على أن التثريب واللعن إنما يكون قبل أخذ الحد وقبل التوبة ، والله تعالى أعلم . إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب
قال : وأما ابن العربي فيجوز إجماعا ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : لعن العاصي مطلقا . لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده
الثالثة : قوله تعالى : أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين أي إبعادهم من رحمته . وأصل اللعن الطرد والإبعاد ، وقد تقدم . فاللعنة من العباد الطرد . ومن الله العذاب . وقرأ : ( والملائكة والناس أجمعون ) بالرفع . وتأويلها : أولئك جزاؤهم أن يلعنهم الله ويلعنهم الملائكة ويلعنهم الناس أجمعون ، كما تقول : كرهت قيام زيد [ ص: 179 ] وعمرو وخالد ; لأن المعنى : كرهت أن قام زيد . وقراءة الحسن البصري الحسن هذه مخالفة للمصاحف .
فإن قيل : ليس يلعنهم جميع الناس لأن قومهم لا يلعنونهم ; قيل عن هذا ثلاثة أجوبة ; أحدها : أن اللعنة من أكثر الناس يطلق عليها لعنة الناس تغليبا لحكم الأكثر على الأقل . الثاني : قال : كل أحد يلعن الظالم ، وإذا لعن الكافر الظالم فقد لعن نفسه . الثالث : قال السدي أبو العالية : المراد به يوم القيامة يلعنهم قومهم مع جميع الناس ; كما قال تعالى : ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ثم قال جل وعز : خالدين فيها يعني في اللعنة ، أي في جزائها . وقيل : خلودهم في اللعنة أنها مؤبدة عليهم خالدين نصب على الحال من الهاء والميم في عليهم ، والعامل فيه الظرف من قوله : عليهم لأن فيها معنى استقرار اللعنة .