فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك فيها تسع مسائل : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا استدل بعض علماء الشافعية بهذه الآية على أن المحصر في أول الآية العدو لا المرض ، وهذا لا يلزم ، فإن معنى قوله : فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق ففدية أي فعليه فدية ، وإذا كان واردا في المرض بلا خلاف كان الظاهر أن أول الآية ورد فيمن ورد فيه وسطها وآخرها ، لاتساق الكلام بعضه على بعض ، وانتظام بعضه ببعض ، ورجوع الإضمار في آخر الآية إلى من خوطب في أولها ، فيجب حمل ذلك على ظاهره حتى يدل الدليل على العدول عنه ، ومما يدل على ما قلناه سبب نزول هذه الآية ، روى الأئمة واللفظ : ( عن للدارقطني كعب بن عجرة بالحديبية ، ولم يبين لهم أنهم يحلون بها وهم على طمع أن يدخلوا مكة ، فأنزل الله الفدية ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة مساكين ، أو يهدي شاة ، أو يصوم ثلاثة أيام ) . خرجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 357 ] رآه وقمله يتساقط على وجهه فقال : أيؤذيك هوامك قال نعم . فأمره أن يحلق وهو بهذا اللفظ أيضا ، فقوله : ولم يبين لهم أنهم يحلون بها ، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم ، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض ، والله أعلم . البخاري
الثانية : قال الأوزاعي في : إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق . المحرم يصيبه أذى في رأسه
قلت : فعلى هذا يكون المعنى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إن أراد أن يحلق ، ومن قدر فحلق ففدية ، فلا يفتدي حتى يحلق ، والله أعلم .
الثالثة : قال : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة ، وهو أمر لا خلاف فيه بين العلماء ، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه ، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام ، وهو محفوظ صحيح في حديث ابن عبد البر . وجاء عن كعب بن عجرة الحسن وعكرمة ونافع قالوا : عشرة أيام ، والإطعام عشرة مساكين ، ولم يقل أحد بهذا من فقهاء الأمصار ولا أئمة الحديث ، وقد جاء من رواية الصوم في فدية الأذى عن أبي الزبير مجاهد عن عبد الرحمن عن أنه حدثه كعب بن عجرة . قال أنه كان أهل في ذي القعدة ، وأنه قمل رأسه فأتى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوقد تحت قدر له ، فقال له : كأنك يؤذيك هوام رأسك ، فقال أجل . قال : احلق واهد هديا ، فقال : ما أجد هديا . قال : فأطعم ستة مساكين ، فقال : ما أجد . قال : صم ثلاثة أيام أبو عمر : كان ظاهر هذا الحديث على الترتيب وليس كذلك ، ولو صح هذا كان معناه الاختيار أولا فأولا ، وعامة الآثار عن [ ص: 358 ] وردت بلفظ التخيير ، وهو نص القرآن ، وعليه مضى عمل العلماء في كل الأمصار وفتواهم ، وبالله التوفيق . كعب بن عجرة
الرابعة : اختلف العلماء في ، فقال الإطعام في فدية الأذى مالك والشافعي وأصحابهم : الإطعام في ذلك مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول وأبو حنيفة أبي ثور وداود ، وروي عن الثوري أنه قال في الفدية : من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير والزبيب صاع . وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله ، جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر . قال ابن المنذر : وهذا غلط ; لأن في بعض أخبار كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ، وقال أن تصدق بثلاثة أصوع من تمر على ستة مساكين مرة كما قال أحمد بن حنبل مالك ، ومرة قال : إن أطعم برا فمد لكل مسكين ، وإن أطعم تمرا فنصف صاع . والشافعي
الخامسة : ولا يجزي أن يغدي المساكين ويعشيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، وبذلك قال مالك والثوري والشافعي ومحمد بن الحسن ، وقال أبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم .
السادسة : أجمع أهل العلم على أن أو غير ذلك إلا في حالة العلة كما نص على ذلك القرآن ، وأجمعوا على وجوب الفدية على من المحرم ممنوع من حلق شعره وجزه وإتلافه بحلق أو نورة ، واختلفوا فيما على من فعل ذلك ، أو حلق وهو محرم بغير علة ، فقال لبس أو تطيب بغير عذر عامدا مالك : بئس ما فعل ! وعليه الفدية ، وهو مخير فيها ، وسواء عنده العمد في ذلك والخطأ ، لضرورة وغير ضرورة ، وقال أبو حنيفة وأصحابهما والشافعي : ليس بمخير إلا في الضرورة ; لأن الله تعالى قال : وأبو ثور فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فإذا فليس بمخير وعليه دم لا غير . حلق رأسه عامدا أو لبس عامدا لغير عذر
السابعة : واختلفوا فيمن فعل ذلك ناسيا ، فقال مالك رحمه الله : العامد والناسي في ذلك سواء في وجوب الفدية ، وهو قول أبي حنيفة والثوري ، والليث في هذه المسألة قولان : أحدهما : لا فدية عليه ، وهو قول وللشافعي داود وإسحاق ، والثاني : عليه الفدية ، وأكثر العلماء يوجبون أو بعضه ، ولبس الخفين وتقليم الأظافر ومس الطيب وإماطة الأذى ، وكذلك إذا حلق شعر جسده أو اطلى ، أو حلق مواضع المحاجم ، والمرأة كالرجل في ذلك ، وعليها الفدية في الكحل وإن لم يكن فيه طيب . وللرجل [ ص: 359 ] أن يكتحل بما لا طيب فيه ، الفدية على المحرم بلبس المخيط وتغطية الرأس ، والعمد والسهو والجهل في ذلك سواء ، وبعضهم يجعل عليهما دما في كل شيء من ذلك . وقال وعلى المرأة الفدية إذا غطت وجهها أو لبست القفازين داود : لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد .
الثامنة : واختلف العلماء في مواضع الفدية المذكورة ، فقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء ، وبنحو ذلك قال أصحاب الرأي ، وعن الحسن أن الدم بمكة ، وقال طاوس : والشافعي والدم لا يكونان إلا الإطعام بمكة ، والصوم حيث شاء ; لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم ، وقد قال الله سبحانه هديا بالغ الكعبة رفقا لمساكين جيران بيته ، فالإطعام فيه منفعة بخلاف الصيام ، والله أعلم ، وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء ، وهو الصحيح من القول ، وهو قول مجاهد ، والذبح هنا عند مالك نسك وليس بهدي لنص القرآن والسنة ، والنسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة ، ومن حجته أيضا ما رواه عن يحيى بن سعيد في موطئه ، وفيه : فأمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه برأسه - يعني رأس حسين - فحلق ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرا . قال مالك قال يحيى بن سعيد : وكان حسين خرج مع عثمان في سفره ذلك إلى مكة ، ففي هذا أوضح دليل على أن فدية الأذى جائز أن تكون بغير مكة ، وجائز عند مالك في الهدي إذا نحر في الحرم أن يعطاه غير أهل الحرم ; لأن البغية فيه إطعام مساكين المسلمين . قال مالك : ولما جاز الصوم أن يؤتى به بغير الحرم جاز إطعام غير أهل الحرم ، ثم إن قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا الآية ، أوضح الدلالة على ما قلناه ، فإنه تعالى لما قال : ففدية من صيام أو صدقة أو نسك لم يقل في موضع دون موضع ، فالظاهر أنه حيثما فعل أجزأه . وقال : أو نسك فسمى ما يذبح نسكا ، وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك ولم يسمه هديا ، فلا يلزمنا أن نرده قياسا على الهدي ، ولا أن نعتبره بالهدي مع ما جاء في ذلك عن علي ، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر كعبا بالفدية ما كان في الحرم ، فصح أن ذلك كله يكون خارج الحرم ، وقد روي عن مثل هذا في وجه بعيد . الشافعي
التاسعة : قوله تعالى : أو نسك النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك : العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى : وأرنا مناسكنا أي متعبداتنا ، وقيل : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، ومنه نسك ثوبه إذا [ ص: 360 ] غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة . وقيل : النسك سبائك الفضة ، كل سبيكة منها نسيكة ، فكأن العابد خلص نفسه من دنس الآثام وسبكها .
فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فيه ثلاث عشرة مسألة : قوله تعالى :
الأولى : قوله تعالى : فإذا أمنتم قيل : معناه برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو المحصر ، قاله ابن عباس وقتادة ، وهو أشبه باللفظ إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه ، كما تقدم ، والله أعلم .
الثانية : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية . اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال قوله تعالى : عبد الله بن الزبير وعلقمة وإبراهيم : الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم . عند وصورة المتمتع ابن الزبير : أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج ، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة ، ثم يقضي الحج من قابل ، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء ، وصورة المتمتع المحصر عند غيره : أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ، وقال ابن عباس وجماعة : الآية في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله .
الثالثة : لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز على ما يأتي تفصيله ، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه ، بل أجازه لهم ورضيه منهم ، صلى الله عليه وسلم . وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول الله صلى الله عليه وسلم محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك ، فقال قائلون منهم مالك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مفردا ، والإفراد أفضل من القران . قال : والقران أفضل من التمتع ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : عائشة : فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ، وأهل به ناس معه ، وأهل ناس بالعمرة والحج ، وأهل ناس بعمرة ، وكنت فيمن أهل بالعمرة ، رواه جماعة عن خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل ومن أراد أن يهل بحج فليهل ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل قالت عن أبيه عن هشام بن عروة عائشة ، وقال بعضهم فيه : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وهذا نص في موضع الخلاف ، وهو حجة [ ص: 361 ] من قال وأما أنا فأهل بالحج ، وحكى بالإفراد وفضله محمد بن الحسن عن مالك أنه قال : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثان مختلفان وبلغنا أن أبا بكر وعمر عملا بأحد الحديثين وتركا الآخر كان في ذلك دلالة على أن الحق فيما عملا به ، واستحب أبو ثور الإفراد أيضا وفضله على التمتع والقران ، وهو أحد قولي في المشهور عنه . واستحب آخرون التمتع بالعمرة إلى الحج ، قالوا : وذلك أفضل . وهو مذهب الشافعي عبد الله بن عمر ، وبه قال وعبد الله بن الزبير ، وهو أحد قولي أحمد بن حنبل . قال الشافعي قال الدارقطني : اخترت الإفراد ، والتمتع حسن لا نكرهه . احتج من الشافعي بما رواه فضل التمتع مسلم عن عمران بن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله - يعني متعة الحج - وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم تنزل آية تنسخ آية متعة الحج ، ولم ينه عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، قال رجل برأيه بعد ما شاء ، وروى الترمذي حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل أنه سعد بن أبي وقاص عام حج والضحاك بن قيس وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال معاوية بن أبي سفيان الضحاك بن قيس : لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى ، فقال سعد : بئس ما قلت يا بن أخي ! فقال الضحاك : فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك ، فقال سعد : قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصنعناها معه ، هذا حديث صحيح ، وروى سمع ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال : ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج ، فقال ابن عمر : حسن جميل . قال : فإن أباك كان ينهى عنها ، فقال : ويلك ! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر به ، أفبقول أبي آخذ ، أم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ! ؟ قم عني . أخرجه إني لجالس مع ، وأخرجه الدارقطني أبو عيسى الترمذي من حديث صالح بن كيسان عن ابن شهاب عن سالم ، وروي عن ليث عن طاوس عن ابن عباس قال : وأبو بكر وعمر وعثمان ، وأول من نهى عنها معاوية حديث حسن . قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو عمر : حديث ليث هذا حديث منكر ، وهو ليث بن أبي سليم ضعيف ، والمشهور عن عمر وعثمان أنهما كانا ينهيان عن التمتع ، وإن كان جماعة من أهل العلم قد زعموا أن المتعة التي نهى عنها عمر وضرب عليها ، فأما فسخ الحج في العمرة فلا . وزعم من صحح نهي التمتع بالعمرة إلى الحج عمر عن التمتع أنه إنما نهى عنه لينتجع البيت مرتين أو أكثر في العام حتى تكثر [ ص: 362 ] عمارته بكثرة الزوار له في غير الموسم ، وأراد إدخال الرفق على أهل الحرم بدخول الناس تحقيقا لدعوة إبراهيم : فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وقال آخرون : إنما نهى عنها لأنه رأى الناس مالوا إلى التمتع ليسارته وخفته ، فخشي أن يضيع الإفراد والقران وهما سنتان للنبي صلى الله عليه وسلم ، واحتج أحمد في اختياره التمتع بقوله صلى الله عليه وسلم : . أخرجه الأئمة ، وقال آخرون : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة ، منهم القران أفضل أبو حنيفة ، وبه قال والثوري المزني قال : لأنه يكون مؤديا للفرضين جميعا ، وهو قول إسحاق . قال إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا ، وهو قول علي بن أبي طالب ، واحتج من استحب القران وفضله بما رواه عن البخاري عمر بن الخطاب قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول : ، وروى أتاني الليلة آت من ربي فقال صل في هذا الوادي المبارك وقل عمرة في حجة الترمذي عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ، وقال : حديث حسن صحيح . قال لبيك بعمرة وحجة أبو عمر : والإفراد إن شاء الله أفضل ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مفردا ، فلذلك قلنا إنه أفضل ; لأن الآثار أصح عنه في إفراده صلى الله عليه وسلم ; ولأن الإفراد أكثر عملا ثم العمرة عمل آخر . وذلك كله طاعة والأكثر منها أفضل ، وقال : المفرد أكثر تعبا من المتمتع ، لإقامته على الإحرام وذلك أعظم لثوابه ، والوجه في اتفاق الأحاديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمرنا بالتمتع والقران جاز أن يقال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال جل وعز : أبو جعفر النحاس ونادى فرعون في قومه ، وقال عمر بن الخطاب : رجمنا ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما أمر بالرجم .
قلت : الأظهر في القران ، وأنه كان قارنا ، لحديث حجته عليه السلام عمر وأنس المذكورين ، وفي صحيح مسلم عن بكر عن أنس قال : . قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة معا بكر : فحدثت بذلك ابن عمر فقال : لبي بالحج وحده ، فلقيت أنسا فحدثته بقول [ ص: 363 ] ابن عمر ، فقال أنس : ما تعدوننا إلا صبيانا ! سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ، وفي صحيح لبيك عمرة وحجا مسلم أيضا عن ابن عباس قال : . قال بعض أهل العلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا ، وإذا كان قارنا فقد حج واعتمر ، واتفقت الأحاديث ، وقال أهل النبي صلى الله عليه وسلم بعمرة وأهل أصحابه بحج ، فلم يحل النبي صلى الله عليه وسلم ولا من ساق الهدي من أصحابه ، وحل بقيتهم النحاس : ومن أحسن ما قيل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بعمرة ، فقال من رآه : تمتع ثم أهل بحجة ، فقال من رآه : أفرد ثم قال : . فقال من سمعه : قرن ، فاتفقت الأحاديث ، والدليل على هذا أنه لم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : أفردت الحج ولا تمتعت ، وصح عنه أنه قال : قرنت كما رواه لبيك بحجة وعمرة عن النسائي علي أنه قال : . قال وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي : كيف صنعت قلت : أهللت بإهلالك . قال فإني سقت الهدي وقرنت . وثبت لو استقبلت من أمري كما استدبرت لفعلت كما فعلتم ولكني سقت الهدي وقرنت حفصة قالت قلت : يا رسول الله ، ما بال الناس قد حلوا من عمرتهم ولم تحلل أنت ؟ قال : إني لبدت رأسي وسقت هديي فلا أحل حتى أنحر ، وهذا يبين أنه كان قارنا ; لأنه لو كان متمتعا أو مفردا لم يمتنع من نحر الهدي . عن
قلت : ما ذكره النحاس أنه لم يرو أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أفردت الحج فقد تقدم من رواية عائشة أنه قال : ، وهذا معناه : فأنا أفرد الحج ، إلا أنه يحتمل أن يكون قد أحرم بالعمرة ، ثم قال : فأنا أهل بالحج ، ومما يبين هذا ما رواه وأما أنا فأهل بالحج مسلم عن ابن عمر ، وفيه : ، فلم يبق في قوله : فأنا أهل بالحج دليل على الإفراد ، وبقي قوله عليه السلام : فإني قرنت ، وقول وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج أنس خادمه إنه سمعه يقول : نص صريح في القران لا يحتمل التأويل ، وروى لبيك بحجة وعمرة معا عن الدارقطني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال : إنما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بحاج بعدها .
[ ص: 364 ] الرابعة : وإذا مضى القول في الإفراد والتمتع والقران وأن كل ذلك جائز بإجماع ، منها وجه واحد مجتمع عليه ، والثلاثة مختلف فيها . فأما الوجه المجتمع عليه فهو التمتع المراد بقول الله جل وعز : فالتمتع بالعمرة إلى الحج عند العلماء على أربعة أوجه فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي وذلك أن يحرم الرجل بعمرة في أشهر الحج - على ما يأتي بيانها - وأن يكون من أهل الآفاق ، وقدم مكة ففرغ منها ثم أقام حلالا بمكة إلى أن أنشأ الحج منها في عامه ذلك قبل رجوعه إلى بلده ، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته ، فإذا فعل ذلك كان متمتعا وعليه ما أوجب الله على المتمتع ، وذلك ما استيسر من الهدي ، يذبحه ويعطيه للمساكين بمنى أو بمكة ، فإن لم يجد صام ثلاثة أيام ، وسبعة إذا رجع إلى بلده - على ما يأتي - وليس له بإجماع من المسلمين ، واختلف في صيام أيام التشريق على ما يأتي . صيام يوم النحر
فهذا إجماع من أهل العلم قديما وحديثا في المتعة ، ورابطها ثمانية شروط : الأول : أن . الثاني : في سفر واحد . الثالث : في عام واحد . الرابع : في أشهر الحج . الخامس : تقديم العمرة . السادس : ألا يمزجها ، بل يكون يجمع بين الحج والعمرة . السابع : أن إحرام الحج بعد الفراغ من العمرة . الثامن : تكون العمرة والحج عن شخص واحد أهل مكة . وتأمل هذه الشروط فيما وصفنا من حكم التمتع تجدها . أن يكون من غير
والوجه الثاني من وجوه التمتع بالعمرة إلى الحج : القران ، وهو أن يجمع بينهما في إحرام واحد فيهل بهما جميعا في أشهر الحج أو غيرها ، يقول : لبيك بحجة وعمرة معا ، فإذا قدم مكة طاف لحجته وعمرته طوافا واحدا وسعى سعيا واحدا ، عند من رأى ذلك ، وهم مالك وأصحابهما والشافعي وإسحاق ، وهو مذهب وأبو ثور عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء بن أبي رباح والحسن ومجاهد ، لحديث وطاوس عائشة رضي الله عنها قالت : أخرجه خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فأهللنا بعمرة . . . الحديث . وفيه : وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا ، البخاري يوم النفر ولم تكن طافت لعائشة بالبيت وحاضت : يسعك طوافك لحجك وعمرتك في رواية : وقال صلى الله عليه وسلم بالصفا والمروة عن حجك وعمرتك . أخرجه يجزئ عنك طوافك مسلم - أو طاف طوافين وسعى سعيين ، عند من رأى ذلك ، وهو أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح ، وروي عن وابن أبي ليلى علي ، وبه قال وابن مسعود الشعبي ، واحتجوا [ ص: 365 ] بأحاديث وجابر بن زيد علي عليه السلام أنه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل . أخرجهما عن في سننه وضعفها كلها ، وإنما جعل القران من باب التمتع ; لأن القارن يتمتع بترك النصب في السفر إلى العمرة مرة وإلى الحج أخرى ، ويتمتع بجمعهما ، ولم يحرم لكل واحد من ميقاته ، وضم الحج إلى العمرة ، فدخل تحت قول الله عز وجل : الدارقطني فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ، وهذا وجه من التمتع لا خلاف بين العلماء في جوازه . وأهل المدينة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلا بسياق الهدي ، وهو عندهم بدنة لا يجوز دونها . ومما يدل على أن القران تمتع قول ابن عمر : إنما جعل القران لأهل الآفاق ، وتلا قول الله جل وعز : ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فمن كان من حاضري المسجد الحرام وتمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع . قال مالك : وما سمعت أن مكيا قرن ، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام ، وعلى قول مالك جمهور الفقهاء في ذلك ، وقال : إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران من أجل أن الله إنما أسقط عن عبد الملك بن الماجشون أهل مكة الدم والصيام في التمتع .
والوجه الثالث من التمتع : هو الذي توعد عليه عمر بن الخطاب وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج . وقد تنازع العلماء في جواز هذا بعد هلم جرا ، وذلك أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة ، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية ، فهذا هو الوجه الذي تواردت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ; فيه أنه أمر أصحابه في حجته من لم يكن معه هدي ولم يسقه وقد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة . وقد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه صلى الله عليه وسلم ولم يدفعوا شيئا منها ، إلا أنهم اختلفوا في القول بها والعمل لعلل فجمهورهم على ترك العمل بها ; لأنها عندهم خصوص خص بها رسول صلى الله عليه وسلم أصحابه في حجته تلك . قال أبو ذر : ( كانت المتعة لنا في الحج خاصة ) أخرجه مسلم ، وفي رواية عنه أنه قال : ( لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة ، يعني متعة النساء ومتعة الحج ) والعلة في الخصوصية ووجه الفائدة [ ص: 366 ] فيها ما قاله ابن عباس رضي الله عنه قال : ( من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون : إذا برأ الدبر ، وعفا الأثر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة رابعة مهلين بالحج ، فأمرهم أن يجعلوها عمرة ، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا : يا رسول الله ، أي الحل ؟ قال : الحل كله أن العمرة في أشهر الحج . أخرجه كانوا يرون مسلم ، وفي المسند الصحيح لأبي حاتم عن ابن عباس قال : ( والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك ، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون : إذا عفا الوبر ، وبرأ الدبر ، وانسلخ صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر ، فقد كانوا يحرمون العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة ، فما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة إلا لينقض ذلك من قولهم ) ففي هذا دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما فسخ الحج في العمرة ليريهم أن العمرة في أشهر الحج لا بأس بها ، وكان ذلك له ولمن معه خاصة ; لأن الله عز وجل قد أمر بإتمام الحج والعمرة كل من دخل فيها أمرا مطلقا ، ولا يجب أن يخالف ظاهر كتاب الله إلا إلى ما لا إشكال فيه من كتاب ناسخ أو سنة مبينة . واحتجوا بما ذكرناه عن أبي ذر وبحديث الحارث بن بلال عن أبيه قال قلنا : ، وعلى هذا جماعة فقهاء يا رسول الله ، فسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة ؟ قال : بل لنا خاصة الحجاز والعراق والشام ، إلا شيئا يروى عن ابن عباس والحسن ، وبه قال والسدي . قال أحمد بن حنبل أحمد : لا أرد تلك الآثار الواردة المتواترة الصحاح في فسخ الحج في العمرة بحديث الحارث بن بلال عن أبيه وبقول أبي ذر . قال : ولم يجمعوا على ما قال أبو ذر ، ولو أجمعوا كان حجة ، قال : وقد خالف ابن عباس أبا ذر ولم يجعله خصوصا ، واحتج أحمد بالحديث الصحيح ، حديث جابر الطويل في الحج ، وفيه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سراقة بن مالك بن جعشم فقال : يا رسول الله ، ألعامنا هذا أم لأبد ؟ فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه واحدة في الأخرى وقال : ( دخلت العمرة في الحج - مرتين - لا بل لأبد أبد ) لفظ لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة فقام مسلم ، وإلى هذا والله أعلم مال حيث ترجم [ باب من لبى بالحج وسماه ] وساق حديث البخاري : جابر بن عبد الله ، وقال قوم : إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإحلال كان على وجه آخر ، وذكر قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نقول : لبيك بالحج ، فأمرنا [ ص: 367 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلناها عمرة مجاهد ذلك الوجه ، وهو أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كانوا فرضوا الحج أولا ، بل أمرهم أن يهلوا مطلقا وينتظروا ما يؤمرون به ، وكذلك أهل علي باليمن ، وكذلك كان إحرام النبي صلى الله عليه وسلم ، ويدل عليه قوله عليه السلام : فكأنه خرج ينتظر ما يؤمر به ويأمر أصحابه بذلك ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام : لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي وجعلتها عمرة . أتاني آت من ربي في هذا الوادي المبارك وقال قل حجة في عمرة
والوجه الرابع من المتعة : متعة المحصر ومن صد عن البيت ، ذكر يعقوب بن شيبة قال حدثنا أبو سلمة التبوذكي حدثنا وهيب حدثنا إسحاق بن سويد قال سمعت عبد الله بن الزبير وهو يخطب يقول : أيها الناس ، إنه والله ليس التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون ، ولكن التمتع أن يخرج الرجل حاجا فيحبسه عدو أو أمر يعذر به حتى تذهب أيام الحج ، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ، ثم يتمتع بحله إلى العام المستقبل ثم يحج ويهدي .
وقد مضى القول في حكم المحصر وما للعلماء في ذلك مبينا ، والحمد لله . فكان من مذهبه أن المحصر لا يحل ولكنه يبقى على إحرامه حتى يذبح عنه الهدي يوم النحر ، ثم يحلق ويبقى على إحرامه حتى يقدم مكة فيتحلل من حجه بعمل عمرة ، والذي ذكره ابن الزبير خلاف عموم قوله تعالى : فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي بعد قوله : وأتموا الحج والعمرة لله ولم يفصل في حكم الإحصار بين الحج والعمرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين أحصروا بالحديبية حلوا وحل ، وأمرهم بالإحلال .
واختلف العلماء أيضا ، فقال لم سمي المتمتع متمتعا ابن القاسم : لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حله في العمرة إلى وقت إنشائه الحج . وقال غيره : سمي متمتعا لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، وذلك أن حق العمرة أن تقصد بسفر ، وحق الحج كذلك ، فلما تمتع بإسقاط أحدهما ألزمه الله هديا ، كالقارن الذي يجمع بين الحج والعمرة في سفر واحد ، والوجه الأول أعم ، فإنه يتمتع بكل ما يجوز للحلال أن يفعله ، وسقط عنه السفر بحجه من بلده ، وسقط عنه الإحرام من ميقاته في الحج ، وهذا هو الوجه الذي كرهه عمر ، وقالا أو قال أحدهما : يأتي أحدكم منى وذكره يقطر منيا ، وقد أجمع المسلمون على جواز هذا ، وقد قال جماعة من العلماء : إنما كرهه وابن مسعود عمر لأنه أحب أن يزار البيت في العام [ ص: 368 ] مرتين : مرة في الحج ، ومرة في العمرة ، ورأى الإفراد أفضل ، فكان يأمر به ويميل إليه وينهى عن غيره استحبابا ، ولذلك قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم ، فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج .
الخامسة : اختلف العلماء فيمن ، فقال الجمهور من العلماء : ليس بمتمتع ، ولا هدي عليه ولا صيام ، وقال اعتمر في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ومنزله ثم حج من عامه : هو متمتع وإن رجع إلى أهله ، حج أو لم يحج . قال لأنه كان يقال : عمرة في أشهر الحج متعة ، رواه الحسن البصري هشيم عن يونس عن الحسن ، وقد روي عن يونس عن الحسن : ليس عليه هدي . والصحيح القول الأول ، هكذا ذكر أبو عمر " حج أو لم يحج " ولم يذكره ابن المنذر . قال ابن المنذر : وحجته ظاهر الكتاب قول عز وجل : فمن تمتع بالعمرة إلى الحج ولم يستثن : راجعا إلى أهله وغير راجع ، ولو كان لله جل ثناؤه في ذلك مراد لبينه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن مثل قول سعيد بن المسيب الحسن . قال أبو عمر : وقد روي عن الحسن أيضا في هذا الباب قول لم يتابع عليه أيضا ، ولا ذهب إليه أحد من أهل العلم ، وذلك أنه قال : من اعتمر بعد يوم النحر فهي متعة ، وقد روي عن طاوس قولان هما أشد شذوذا مما ذكرنا عن الحسن أحدهما : أن من ثم حج من عامه أنه متمتع . هذا لم يقل به أحد من العلماء غيره ، ولا ذهب إليه أحد من فقهاء الأمصار ، وذلك - والله أعلم - أن شهور الحج أحق بالحج من العمرة ; لأن اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى دخل وقت الحج ، ، والحج إنما موضعه شهور معلومة ، فإذا جعل أحد العمرة في أشهر الحج فقد جعلها في موضع كان الحج أولى به ، إلا أن الله تعالى قد رخص في كتابه وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمل العمرة في أشهر الحج للمتمتع وللقارن ولمن شاء أن يفردها ، رحمة منه ، وجعل فيه ما استيسر من الهدي ، والوجه الآخر قاله في المكي إذا تمتع من مصر من الأمصار فعليه الهدي ، وهذا لم يعرج عليه ، لظاهر قوله تعالى : العمرة جائزة في السنة كلها ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام والتمتع الجائز عند جماعة العلماء ما أوضحناه بالشرائط التي ذكرناها ، وبالله توفيقنا .
السادسة : أجمع العلماء على أهل مكة لو قدم مكة معتمرا في أشهر الحج عازما على الإقامة بها ثم أنشأ الحج من عامه فحج أنه متمتع ، عليه ما على المتمتع ، وأجمعوا في أن رجلا من غير مكة وأهله [ ص: 369 ] بمكة ولم يسكن سواها أنه لا دم عليه ، وكذلك إذا سكن غيرها وسكنها وكان له فيها أهل وفي غيرها ، وأجمعوا على أنه المكي يجيء من وراء الميقات محرما بعمرة ، ثم ينشئ الحج من مكة بأهله ثم قدمها في أشهر الحج معتمرا فأقام بها حتى حج من عامه أنه متمتع . إن انتقل من
السابعة : واتفق مالك والشافعي وأصحابهم وأبو حنيفة والثوري على أن المتمتع يطوف لعمرته وأبو ثور بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة ، وعليه بعد أيضا طواف آخر لحجه وسعي بين الصفا والمروة ، وروي عن عطاء أنه يكفيه سعي واحد بين وطاوس الصفا والمروة ، والأول المشهور ، وهو الذي عليه الجمهور ، وأما فقد تقدم . طواف القارن
الثامنة : واختلفوا فيمن ، فقال أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عمل لها في أشهر الحج مالك : عمرته في الشهر الذي حل فيه ، يريد إن كان حل منها في غير أشهر الحج فليس بمتمتع ، وإن كان حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إن حج من عامه ، وقال : الشافعي بالبيت في الأشهر الحرم للعمرة فهو متمتع إن حج من عامه ، وذلك أن العمرة إنما تكمل بالطواف إذا طاف بالبيت ، وإنما ينظر إلى كمالها ، وهو قول الحسن البصري والحكم بن عيينة وابن شبرمة ، وقال وسفيان الثوري قتادة وأحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه ، وروي معنى ذلك عن ، وقال جابر بن عبد الله طاوس : عمرته للشهر الذي يدخل فيه الحرم ، وقال أصحاب الرأي : إن طاف لها ثلاثة أشواط في رمضان ، وأربعة أشواط في شوال فحج من عامه أنه متمتع ، وإن طاف في رمضان أربعة أشواط ، وفي شوال ثلاثة أشواط لم يكن متمتعا ، وقال أبو ثور : إذا دخل في العمرة في غير أشهر الحج فسواء أطاف لها في رمضان أو في شوال لا يكون بهذه العمرة متمتعا ، وهو معنى قول أحمد وإسحاق : عمرته للشهر الذي أهل فيه .
التاسعة : أجمع أهل العلم على أن بالبيت ، ويكون قارنا بذلك ، يلزمه ما يلزم القارن الذي أنشأ الحج والعمرة معا . واختلفوا في إدخال الحج على العمرة بعد أن افتتح الطواف ، فقال لمن أهل بعمرة في أشهر الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف مالك : يلزمه ذلك ويصير قارنا ما لم طوافه ، وروي مثله عن أبي حنيفة ، والمشهور عنه أنه لا يجوز إلا قبل الأخذ في الطواف ، وقد قيل : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يركع ركعتي الطواف ، وكل ذلك قول مالك وأصحابه ، فإذا طاف المعتمر شوطا واحدا لعمرته ثم أحرم بالحج صار قارنا ، وسقط عنه باقي عمرته ولزمه دم القران ، وكذلك من أحرم بالحج في أضعاف طوافه أو بعد فراغه منه قبل ركوعه ، وقال بعضهم : له أن يدخل الحج على العمرة ما لم يكمل السعي بين الصفا والمروة . قال أبو عمر : وهذا كله شذوذ عند أهل العلم ، وقال أشهب : إذا طاف [ ص: 370 ] لعمرته شوطا واحدا لم يلزمه الإحرام به ولم يكن قارنا ، ومضى على عمرته حتى يتمها ثم يحرم بالحج ، وهذا قول الشافعي ، وبه قال وعطاء أبو ثور .
العاشرة : واختلفوا في إدخال العمرة على الحج ، فقال مالك وأبو ثور وإسحاق : لا تدخل العمرة على الحج ، ومن أضاف العمرة إلى الحج فليست العمرة بشيء ، قاله مالك ، وهو أحد قولي ، وهو المشهور عنه الشافعي بمصر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه في القديم : يصير قارنا ، ويكون عليه ما على القارن ما لم يطف بحجته شوطا واحدا ، فإن طاف لم يلزمه ; لأنه قد عمل في الحج . قال والشافعي ابن المنذر : وبقول مالك أقول في هذه المسألة .
الحادية عشرة : قال مالك : من أهدى هديا للعمرة وهو متمتع لم يجز ذلك ، وعليه هدي آخر لمتعته ; لأنه إنما يصير متمتعا إذا أنشأ الحج بعد أن حل من عمرته ، وحينئذ يجب عليه الهدي ، وقال أبو حنيفة وأبو ثور وإسحاق : لا ينحر هديه إلا يوم النحر ، وقال أحمد : إن قدم المتمتع قبل العشر طاف وسعى ونحر هديه ، وإن قدم في العشر لم ينحر إلا يوم النحر ، وقاله عطاء وقال : يحل من عمرته إذا طاف وسعى ، ساق هديا أو لم يسقه . الشافعي
الثانية عشرة : واختلف مالك في المتمتع يموت ، فقال والشافعي : إذا أحرم بالحج وجب عليه دم المتعة إذا كان واجدا لذلك ، حكاه الشافعي الزعفراني عنه ، وروى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن المتمتع يموت بعد ما يحرم بالحج بعرفة أو غيرها ، أترى عليه هديا ؟ قال : من مات من أولئك قبل أن يرمي جمرة العقبة فلا أرى عليه هديا ، ومن رمى الجمرة ثم مات فعليه الهدي . قيل له : من رأس المال أو من الثلث ؟ قال : بل من رأس المال .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : فما استيسر من الهدي تقدم الكلام فيه .