قوله تعالى :
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم فيه أربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قيل : الخطاب للحمس ، فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات ، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم ، وكانوا يقولون : نحن قطين الله ، فينبغي لنا أن نعظم الحرم ، ولا نعظم شيئا من الحل ، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم ، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم : أفيضوا مع الجملة . وثم ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة ، وقال الضحاك : المخاطب بالآية جملة الأمة ، والمراد ب الناس إبراهيم عليه السلام ، كما قال : الذين قال لهم الناس وهو يريد واحدا . ويحتمل على هذا أن يؤمروا بالإفاضة من عرفة ، ويحتمل أن تكون إفاضة أخرى ، وهي التي من المزدلفة ، فتجيء " ثم " على هذا الاحتمال على بابها ، وعلى هذا الاحتمال عول الطبري ، والمعنى : أفيضوا من حيث أفاض إبراهيم من مزدلفة جمع ، أي ثم أفيضوا إلى منى لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من جمع .
[ ص: 396 ] قلت : ويكون في هذا حجة لمن أوجب بالمزدلفة ، للأمر بالإفاضة منها ، والله أعلم ، والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأول . روى الوقوف الترمذي عن عائشة قالت : كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة يقولون : نحن قطين الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ، فأنزل الله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس هذا حديث حسن صحيح ، وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : الحمس هم الذين أنزل الله فيهم : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس قالت : كان الناس يفيضون من عرفات ، وكان الحمس يفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نفيض إلا من الحرم ، فلما نزلت : أفيضوا من حيث أفاض الناس رجعوا إلى عرفات ، وهذا نص صريح ، ومثله كثير صحيح ، فلا معول على غيره من الأقوال . والله المستعان ، وقرأ سعيد بن جبير " الناسي " وتأويله آدم عليه السلام ، لقوله تعالى : فنسي ولم نجد له عزما ، ويجوز عند بعضهم تخفيف الياء فيقول الناس ، كالقاض والهاد . ابن عطية : أما جوازه في العربية فذكره ، وأما جوازه مقروءا به فلا أحفظه ، وأمر تعالى بالاستغفار لأنها مواطنه ، ومظان القبول ومساقط الرحمة ، وقالت فرقة : المعنى واستغفروا الله من فعلكم الذي كان مخالفا لسنة سيبويه إبراهيم في وقوفكم بقزح من المزدلفة دون عرفة .
الثانية : روى أبو داود عن علي قال : فلما أصبح - يعني النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قزح فقال : وجمع كلها موقف ونحرت ها هنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم . فحكم هذا قزح وهو الموقف عرفة إلى المزدلفة أن يبيتوا بها ثم يغلس بالصبح الإمام بالناس ويقفون الحجيج إذا دفعوا من بالمشعر الحرام ، وقزح هو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، ولا يزالون يذكرون الله ويدعون إلى قرب طلوع الشمس ، ثم يدفعون قبل الطلوع ، على مخالفة العرب ، فإنهم كانوا يدفعون بعد الطلوع ويقولون : أشرق ثبير ، كيما نغير ، أي كيما نقرب من التحلل فنتوصل إلى الإغارة ، وروى عن البخاري عمرو بن ميمون قال : شهدت عمر صلى بجمع الصبح ثم وقف فقال : إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس ويقولون : أشرق [ ص: 397 ] ثبير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم فدفع قبل أن تطلع الشمس ، وروى ابن عيينة عن عن ابن جريج محمد بن مخرمة عن ابن طاوس عن أبيه أن عرفة قبل غروب الشمس ، وكانوا يدفعون من المزدلفة بعد طلوع الشمس ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا وعجل هذا ، أخر الدفع من عرفة ، وعجل الدفع من المزدلفة مخالفا هدي المشركين . أهل الجاهلية كانوا يدفعون من
الثالثة : فإذا دفعوا قبل الطلوع فحكمهم أن يدفعوا على هيئة الدفع من عرفة ، وهو أن يسير الإمام بالناس سير العنق ، فإذا وجد أحدهم فرجة زاد في العنق شيئا ، والعنق : مشي للدواب معروف لا يجهل ، والنص : فوق العنق ، كالخبب أو فوق ذلك . وفي صحيح مسلم عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما وسئل : عرفة ؟ قال : كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص . قال كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أفاض من هشام : والنص فوق العنق ، وقد تقدم ، ويستحب له أن يحرك في بطن محسر قدر رمية بحجر ، فإن لم يفعل فلا حرج ، وهو من منى ، وروى الثوري وغيره عن عن أبي الزبير جابر قال : وادي محسر وقال لهم : خذوا عني مناسككم ، فإذا أتوا دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه السكينة وقال لهم : أوضعوا في منى وذلك غدوة يوم النحر ، إن قدروا ، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار ، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا ، ويرمونها بسبع حصيات - على ما يأتي بيانه - فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله ، إلا النساء والطيب والصيد عند كل حصاة منها مثل حصى الخذف مالك وإسحاق في رواية أبي داود الخفاف عنه . وقال عمر بن الخطاب : يحل له كل شيء إلا النساء والطيب ، ومن تطيب عند وابن عمر مالك بعد الرمي وقبل الإفاضة لم ير عليه فدية ، لما جاء في ذلك ، ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : يحل له كل شيء إلا النساء ، وروي عن وأبو ثور ابن عباس .
الرابعة : ، وعلى هذا أكثر أهل العلم ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة بالمدينة وغيرها ، وهو جائز مباح عند مالك ، والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة ، على ما ذكر في موطئه عن علي ، وقال : هو الأمر عندنا .
[ ص: 398 ] قلت : والأصل في هذه الجملة من السنة ما رواه مسلم عن ، الفضل بن عباس عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا : عليكم بالسكينة وهو كاف ناقته حتى دخل وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في عشية محسرا ( وهو من منى ) قال : ، وقال : عليكم بحصى الخذف الذي يرمى به الجمرة . في رواية : والنبي صلى الله عليه وسلم يشير بيده كما يخذف الإنسان ، وفي لم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة عن البخاري عبد الله البيت عن يساره ومنى عن يمينه ، ورمى بسبع وقال : هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلى الله عليه وسلم وروى أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل عن الدارقطني عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، وفي إذا رميتم وحلقتم وذبحتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء وحل لكم الثياب والطيب عن البخاري عائشة قالت : ، وهذا هو طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي هاتين ، حين أحرم ، ولحله حين أحل قبل أن يطوف ، وبسطت يديها عند العلماء . التحلل الأصغر : طواف الإفاضة ، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام وسيأتي ذكره في سورة " الحج " إن شاء الله تعالى . والتحلل الأكبر