[ ص: 528 ]  ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب    ( 51 ) وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد   ( 52 ) وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد   ( 53 ) وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب   ( 54 ) ) . 
يقول تعالى : ولو ترى - يا محمد   - إذ فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة ، ( فلا فوت   ) أي : فلا مفر لهم ، ولا وزر ولا ملجأ ( وأخذوا من مكان قريب   ) أي : لم يكونوا يمنعون في الهرب بل أخذوا من أول وهلة . 
قال  الحسن البصري   : حين خرجوا من قبورهم . 
وقال مجاهد ،   وعطية العوفي  ، وقتادة   : من تحت أقدامهم . 
وعن ابن عباس  والضحاك   : يعني : عذابهم في الدنيا . 
وقال عبد الرحمن بن زيد   : يعني : قتلهم يوم بدر . 
والصحيح : أن المراد بذلك يوم القيامة ، وهو الطامة العظمى ، وإن كان ما ذكر متصلا بذلك . 
وحكى ابن جرير  عن بعضهم قال : إن المراد بذلك جيش يخسف بهم بين مكة  والمدينة  في أيام بني العباس  ، ثم أورد في ذلك حديثا موضوعا بالكلية . ثم لم ينبه على ذلك ، وهذا أمر عجيب غريب منه 
( وقالوا آمنا به   ) أي : يوم القيامة يقولون : آمنا بالله وبكتبه ورسله ، كما قال تعالى : ( ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون   ) [ السجدة : 12 ] ; ولهذا قال تعالى : ( وأنى لهم التناوش من مكان بعيد   ) أي : وكيف لهم تعاطي الإيمان وقد بعدوا عن محل قبوله منهم وصاروا إلى الدار الآخرة ، وهي دار الجزاء لا دار الابتلاء ، فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان ، كما لا سبيل إلى حصول الشيء لمن يتناوله من بعيد . 
قال مجاهد   : ( وأنى لهم التناوش   ) قال : التناول لذلك . 
وقال الزهري   : التناوش : تناولهم الإيمان وهم في الآخرة ، وقد انقطعت عنهم الدنيا . 
وقال  الحسن البصري   : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد . 
وقال ابن عباس   : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه ، وليس بحين رجعة ولا توبة . وكذا قال  محمد بن كعب القرظي  ، رحمه الله . 
وقوله : ( وقد كفروا به من قبل   ) أي : كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة ، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا بالرسل ؟ 
( ويقذفون بالغيب من مكان بعيد   ) : قال مالك ،  عن  زيد بن أسلم   : ( ويقذفون بالغيب   ) قال : بالظن . 
 [ ص: 529 ] قلت : كما قال تعالى : ( رجما بالغيب   ) [ الكهف : 22 ] ، فتارة يقولون : شاعر . وتارة يقولون : كاهن . وتارة يقولون : ساحر . وتارة يقولون : مجنون . إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالغيب والنشور والمعاد ، ويقولون : ( إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين   ) [ الجاثية : 32 ] . 
قال قتادة   : يرجمون بالظن ، لا بعث ولا جنة ولا نار . 
وقوله : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون   ) : قال  الحسن البصري  ، والضحاك ،  وغيرهما : يعني : الإيمان . 
وقال  السدي   : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون   ) وهي : التوبة . وهذا اختيار ابن جرير  ، رحمه الله . 
وقال مجاهد   : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون   ) من هذه الدنيا ، من مال وزهرة وأهل . وروي [ ذلك ] عن ابن عباس   وابن عمر   والربيع بن أنس   . وهو قول  البخاري  وجماعة . والصحيح : أنه لا منافاة بين القولين; فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة ، فمنعوا منه . 
وقد ذكر ابن أبي حاتم  هاهنا أثرا غريبا [ عجيبا ] جدا ، فلنذكره بطوله فإنه قال : حدثنا محمد بن يحيى  ، حدثنا بشر بن حجر السامي  ، حدثنا علي بن منصور الأنباري  ، عن الشرقي بن قطامي  ، عن سعيد بن طريف  ، عن عكرمة ،  عن ابن عباس  في قول الله عز وجل : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون   ) إلى آخر الآية ، قال : كان رجل من بني إسرائيل  فاتحا - أي فتح الله له مالا - فمات فورثه ابن له تافه - أي : فاسد - فكان يعمل في مال الله بمعاصي الله . فلما رأى ذلك إخوان أبيه أتوا الفتى فعذلوه ولاموه ، فضجر الفتى فباع عقاره بصامت ، ثم رحل فأتى عينا ثجاجة فسرح فيها ماله ، وابتنى قصرا . فبينما هو ذات يوم جالس إذ شملت عليه [ ريح ] بامرأة من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا - أي : ريحا - فقالت : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا امرؤ من بني إسرائيل  قالت : فلك هذا القصر ، وهذا المال ؟ قال : نعم . قالت : فهل لك من زوجة ؟ قال : لا . قالت : فكيف يهنيك العيش ولا زوجة لك ؟ قال : قد كان ذلك . فهل لك من بعل ؟ قالت : لا . قال : فهل لك إلى أن أتزوجك ؟ قالت : إني امرأة منك على مسيرة ميل ، فإذا كان غد فتزود زاد يوم وأتني ، وإن رأيت في طريقك هولا فلا يهولنك . فلما كان من الغد تزود زاد يوم ، وانطلق فانتهى إلى قصر ، فقرع رتاجه ، فخرج إليه شاب من أحسن الناس وجها وأطيبهم أرجا - أي : ريحا - فقال : من أنت يا عبد الله ؟ فقال : أنا الإسرائيلي . قال فما حاجتك ؟ قال : دعتني صاحبة هذا القصر إلى نفسها . قال : صدقت ، قال فهل رأيت في طريقك [ هولا ؟ ] قال : نعم ، ولولا أنها أخبرتني أن لا بأس علي ، لهالني الذي رأيت; أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بكلبة فاتحة  [ ص: 530 ] فاها ، ففزعت ، فوثبت فإذا أنا من ورائها ، وإذا جراؤها ينبحن في بطنها . فقال له الشاب : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقاعد الغلام المشيخة في مجلسهم ويبزهم حديثهم . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا بمائة عنز حفل ، وإذا فيها جدي يمصها ، فإذا أتى عليها وظن أنه لم يترك شيئا ، فتح فاه يلتمس الزيادة . فقال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، ملك يجمع صامت الناس كلهم ، حتى إذا ظن أنه لم يترك شيئا فتح فاه يلتمس الزيادة . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بشجر ، فأعجبني غصن من شجرة منها ناضر ، فأردت قطعه ، فنادتني شجرة أخرى : " يا عبد الله ، مني فخذ " . حتى ناداني الشجر أجمع : " يا عبد الله ، منا فخذ " . قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، يقل الرجال ويكثر النساء ، حتى إن الرجل ليخطب المرأة فتدعوه العشر والعشرون إلى أنفسهن . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا برجل قائم على عين ، يغرف لكل إنسان من الماء ، فإذا تصدعوا عنه صب في جرته فلم تعلق جرته من الماء بشيء . قال : لست تدرك هذا ، هذا يكون في آخر الزمان ، القاص يعلم الناس العلم ثم يخالفهم إلى معاصي الله . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل إذا أنا بعنز وإذا بقوم قد أخذوا بقوائمها ، وإذا رجل قد أخذ بقرنيها ، وإذا رجل قد أخذ بذنبها ، وإذا رجل قد ركبها ، وإذا رجل يحلبها . فقال : أما العنز فهي الدنيا ، والذين أخذوا بقوائمها يتساقطون من عيشها ، وأما الذي قد أخذ بقرنيها فهو يعالج من عيشها ضيقا ، وأما الذي أخذ بذنبها فقد أدبرت عنه ، وأما الذي ركبها فقد تركها . وأما الذي يحلبها فبخ [ بخ ] ، ذهب ذلك بها . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، وإذا أنا برجل يمتح على قليب ، كلما أخرج دلوه صبه في الحوض ، فانساب الماء راجعا إلى القليب . قال : هذا رجل رد الله [ عليه ] صالح عمله ، فلم يقبله . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل يبذر بذرا فيستحصد ، فإذا حنطة طيبة . قال : هذا رجل قبل الله صالح عمله ، وأزكاه له . 
قال : ثم أقبلت حتى إذا انفرج بي السبيل ، إذا أنا برجل مستلق على قفاه ، قال : يا عبد الله ، ادن مني فخذ بيدي وأقعدني ، فوالله ما قعدت منذ خلقني الله فأخذت بيده ، فقام يسعى حتى ما أراه . فقال له الفتى : هذا عمر الأبعد نفد ، أنا ملك الموت وأنا المرأة التي أتتك . . . أمرني الله بقبض روح الأبعد في هذا المكان ، ثم أصيره إلى نار جهنم قال : ففيه نزلت هذه : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون   ) الآية . 
 [ ص: 531 ] هذا أثر غريب ، وفي صحته نظر ، وتنزيل [ هذه ] الآية عليه وفي حقه بمعنى أن الكفار كلهم يتوفون وأرواحهم متعلقة بالحياة الدنيا ، كما جرى لهذا المغرور المفتون ، ذهب يطلب مراده فجاءه الموت فجأة بغتة ، وحيل بينه وبين ما يشتهي . 
وقوله : ( كما فعل بأشياعهم من قبل   ) أي : كما جرى للأمم الماضية المكذبة للرسل ، لما جاءهم بأس الله تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم ، ( فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون   ) [ غافر : 84 ، 85 ] . 
وقوله : ( إنهم كانوا في شك مريب   ) أي : كانوا في الدنيا في شك وريبة ، فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب . 
قال قتادة   : إياكم والشك والريبة . فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه . 
آخر تفسير سورة " سبأ " ولله الحمد والمنة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					