( ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت  لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون   ( 18 ) ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون   ( 19 ) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون   ( 20 ) ) 
قال  الإمام أحمد   : حدثنا محمد بن جعفر  ، حدثنا شعبة  ، عن  عون بن أبي جحيفة  ، عن المنذر بن جرير  ، عن أبيه قال : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار ، قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار - أو العباء - متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر  فتغير وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا فأذن وأقام الصلاة ، فصلى ثم خطب ، فقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة   ) إلى آخر الآية : ( إن الله كان عليكم رقيبا   ) [ النساء : 1 ] . وقرأ الآية التي في الحشر : ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد   )  [ ص: 77 ] تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره - حتى قال - : ولو بشق تمرة " . قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتهلل وجهه كأنه مذهبة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " من سن في الإسلام سنة حسنة ، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده ، من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء  " . 
انفرد بإخراجه مسلم  من حديث شعبة  بإسناد مثله . 
فقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله   ) أمر بتقواه ، وهي تشمل فعل ما به أمر ، وترك ما عنه زجر . 
وقوله : ( ولتنظر نفس ما قدمت لغد   ) أي : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم ، ( واتقوا الله ) تأكيد ثان ، ( إن الله خبير بما تعملون   ) أي : اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير . 
وقال ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم   ) أي : لا تنسوا ذكر الله فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم التي تنفعكم في معادكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ; ولهذا قال : ( أولئك هم الفاسقون   ) أي : الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معادهم ، كما قال : ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون   ) [ المنافقون : 9 ] . 
وقال  الحافظ أبو القاسم الطبراني   : حدثنا  أحمد بن عبد الوهاب بن نجدة الحوطي  ، حدثنا أبو المغيرة  ، حدثنا حريز بن عثمان  ، عن نعيم بن نمحة  قال : كان في خطبة  أبي بكر الصديق  ، رضي الله عنه : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ؟ فمن استطاع أن يقضي الأجل وهو في عمل الله ، عز وجل ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله ، عز وجل . إن قوما جعلوا آجالهم لغيرهم ، فنهاكم الله تكونوا أمثالهم : ( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم   ) أين من تعرفون من إخوانكم ؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط ؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، وائتضحوا بسنائه وبيانه ، إن الله أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : ( إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين   )  [ ص: 78 ]  [ الأنبياء : 90 ] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فيمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم  . 
هذا إسناد جيد ، ورجاله كلهم ثقات ، وشيخ حريز بن عثمان  ، وهو نعيم بن نمحة  ، لا أعرفه بنفي ولا إثبات ، غير أن أبا داود السجستاني  قد حكم بأن شيوخ حريز  كلهم ثقات . وقد روي لهذه الخطبة شواهد من وجوه أخر ، والله أعلم . 
وقوله : ( لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة   ) أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله يوم القيامة ، كما قال : ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون   ) [ الجاثية : 21 ] ، وقال ( وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء   ) الآية [ غافر : 58 ] . قال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار   ) [ ص : 28 ] ؟ في آيات أخر دالات على أن الله سبحانه يكرم الأبرار ، ويهين الفجار ; ولهذا قال ها هنا : ( أصحاب الجنة هم الفائزون   ) أي : الناجون المسلمون من عذاب الله عز وجل . 
				
						
						
