[ ص: 109 ] ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين وإذ قال موسى لقومه ياقوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ( 5 ) )
( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ( 6 ) )
يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام أنه قال لقومه : ( لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ) أي : لم توصلون الأذى إلي وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة ؟ . وفي هذا تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم ، وأمر له بالصبر ; ولهذا قال : " " وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي - صلى الله عليه وسلم - أو يوصلوا إليه أذى ، كما قال تعالى : ( رحمة الله على موسى : لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) [ الأحزاب : 69 ]
وقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) أي : فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان ، كما قال تعالى : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ) [ الأنعام : 110 ] وقال ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) [ النساء : 115 ] ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين )
وقوله : ( إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله ) يعني : التوراة قد بشرت بي ، وأنا مصداق ما أخبرت عنه ، وأنا مبشر بمن بعدي ، وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي أحمد . فعيسى عليه السلام ، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام في ملإ بني إسرائيل مبشرا بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، الذي لا رسالة بعده ولا نبوة . وما أحسن ما أورد الحديث الذي قال فيه : البخاري
حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : " . سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب
ورواه مسلم من حديث الزهري به نحوه
وقال : حدثنا أبو داود الطيالسي المسعودي ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ، عن أبي موسى قال : ، منها ما حفظنا فقالو : " أنا محمد ، وأنا أحمد ، والحاشر ، والمقفي ، ونبي الرحمة ، والتوبة ، والملحمة أسماء " . سمى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفسه
ورواه مسلم من حديث الأعمش عن عمرو بن مرة به
[ ص: 110 ]
وقد قال الله تعالى : ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ) [ الأعراف : 157 ] وقال تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) [ آل عمران : 81 ]
قال ابن عباس : ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد : لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليتبعنه وينصرنه .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني ، عن ثور بن يزيد خالد بن معدان ، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا : إبراهيم ، وبشرى عيسى ورأت أمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصرى من أرض الشام " . يا رسول الله ، أخبرنا عن نفسك . قال : " دعوة أبي
وهذا إسناد جيد . وروي له شواهد من وجوه أخر ، فقال : الإمام أحمد
حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن سعيد بن سويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العرباض بن سارية قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " " . إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك : دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفرج بن فضالة ، حدثنا لقمان بن عامر قال : سمعت أبا أمامة قال : إبراهيم ، وبشرى عيسى ورأت أمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام " قلت يا نبي الله ، ما كان بدء أمرك ؟ قال : " دعوة أبي
وقال أحمد أيضا : حدثنا حسن بن موسى : سمعت خديجا أخا زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن عتبة ، عن قال : عبد الله بن مسعود النجاشي ونحن نحو من ثمانين رجلا منهم : ، عبد الله بن مسعود وجعفر ، وعبد الله بن عرفطة ، ، وعثمان بن مظعون وأبو موسى . فأتوا النجاشي وبعثت قريش عمرو بن العاص ، وعمارة بن الوليد بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ، ثم ابتدراه عن يمينه ، وعن شماله ، ثم قالا له : إن نفرا من بني عمنا نزلوا أرضك ، ورغبوا عنا ، وعن ملتنا . قال : فأين هم ؟ قالا : هم في أرضك ، فابعث إليهم . فبعث إليهم . فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم . فاتبعوه فسلم ولم يسجد ، [ ص: 111 ] فقالوا له : ما لك لا تسجد للملك ؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عز وجل . قال : وما ذاك ؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله ، فأمرنا ألا نسجد لأحد إلا لله عز وجل ، وأمرنا بالصلاة والزكاة .
قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم . قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأمه ؟ قالوا : نقول كما قال الله عز وجل : هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول ، التي لم يمسها بشر ولم يفرضها ولد . قال : فرفع عودا من الأرض ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ، ما يساوي هذا . مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله ، وأنه الذي نجد في الإنجيل ، وأنه الذي بشر به عيسى ابن مريم . انزلوا حيث شئتم ، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه وأوضئه . وأمر بهدية الآخرين فردت إليهما ، ثم تعجل حتى أدرك عبد الله بن مسعود بدرا ، وزعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استغفر له حين بلغه موته بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى
وقد رويت هذه القصة عن جعفر ، رضي الله عنهما ، وموضع ذلك كتاب السيرة . والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته ، وتحكيه في كتبها على أممها ، وتأمرهم باتباعه ، ونصره ، وموازرته إذا بعث . وكان ما اشتهر الأمر في أهل الأرض على لسان وأم سلمة إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولا منهم ، وكذا على لسان عيسى ابن مريم ; ولهذا قالوا : " " أي : ظهر في أهل أخبرنا عن بدء أمرك ؟ " يعني : في الأرض ، قال : " دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى ابن مريم ، ورؤيا أمي التي رأت مكة أثر ذلك والإرهاص بذكره صلوات الله وسلامه عليه .
وقوله : ( فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين ) قال ، ابن جريج : ( فلما جاءهم ) أحمد ، أي : المبشر به في الأعصار المتقادمة ، المنوه بذكره في القرون السالفة ، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون : ( هذا سحر مبين ) وابن جرير