( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف  وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا   ( 2 ) ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا   ( 3 ) ) 
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . ( بمعروف ) أي : محسنا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها ( بمعروف ) أي : من غير مقابحة ، ولا مشاتمة ، ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن . 
وقوله : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم    ) أي : على الرجعة إذا عزمتم عليها ، كما رواه أبو داود  ،  وابن ماجه  ، عن عمران بن حصين   : أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ، ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ، ولا على رجعتها ، فقال : طلقت لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تعد 
وقال  ابن جريج   : كان عطاء  يقول : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم   ) قال : لا يجوز في نكاح ، ولا طلاق ، ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر  . 
وقوله : ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر   ) أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة . 
 [ ص: 146 ] 
ومن ها هنا ذهب  الشافعي   - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها . 
وقوله : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب    ) أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وترك ما نهاه عنه يجعل له من أمره مخرجا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله . 
قال  الإمام أحمد   : حدثنا يزيد  ، أخبرنا كهمس بن الحسن  ، حدثنا أبو السليل  ، عن أبي ذر  قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو علي هذه الآية : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب   ) حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر  لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويرددها علي حتى نعست ، ثم قال : " يا أبا ذر  ، كيف تصنع إن أخرجت من المدينة ؟   . " قلت : إلى السعة والدعة أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة   . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟   " . قال : قلت : إلى السعة والدعة ، وإلى الشام ،  والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجت من الشام ؟   " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أوخير من ذلك ؟ " . قلت : أوخير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدا حبشيا " 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا  أحمد بن منصور الرمادي  ، حدثنا يعلى بن عبيد  ، حدثنا زكريا  ، عن عامر  ، عن شتير بن شكل  قال : سمعت  عبد الله بن مسعود  يقول : إن أجمع آية في القرآن : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان   ) [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجا : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا   ) 
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر  ، حدثنا  الوليد بن مسلم  ، عن الحكم بن مصعب  ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس  ، عن أبيه ، عن جده  عبد الله بن عباس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا  ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا   ) يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، ( ويرزقه من حيث لا يحتسب   ) 
وقال الربيع بن خثيم   : ( يجعل له مخرجا   ) أي : من كل شيء ضاق على الناس . 
وقال عكرمة   : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجا . وكذا روي عن ابن عباس  ، والضحاك   . 
 [ ص: 147 ] 
وقال ابن مسعود  ، ومسروق   : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا   ) يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى ( من حيث لا يحتسب   ) أي من حيث لا يدري . 
وقال قتادة   : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا   ) أي : من شبهات الأمور والكرب عند الموت ، ( ويرزقه من حيث لا يحتسب   ) ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل  . 
وقال  السدي   : ( ومن يتق الله   ) يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقال له : "  عوف بن مالك الأشجعي   " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجا " ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب   ) 
رواه ابن جرير  ، وروي أيضا من طريق  سالم بن أبي الجعد  ، مرسلا نحوه 
وقال  الإمام أحمد  ، حدثنا  ، وكيع  ، حدثنا سفيان  ، عن عبد الله بن عيسى  ، عن عبد الله بن أبي الجعد  ، عن ثوبان  ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " . 
ورواه  النسائي  ،  وابن ماجه  من حديث  سفيان - وهو الثوري -  به 
وقال محمد بن إسحاق   : جاء مالك الأشجعي  إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : له أسر ابني عوف   . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسرح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة   . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف  كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف  قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره ، وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسأله عنها . فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بخبر عوف  ، وخبر الإبل ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعا بمالك " . ونزل : ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب   )  [ ص: 148 ] 
رواه ابن أبي حاتم   . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا علي بن الحسين  ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق  ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث  ، حدثنا الفضيل بن عياض  ، عن  هشام بن حسان  ، عن عمران بن حصين  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها " 
وقوله : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه    ) قال  الإمام أحمد   : 
حدثنا يونس  ، حدثنا ليث  ، حدثنا قيس بن الحجاج  ، عن حنش الصنعاني  ، عن  عبد الله بن عباس   : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " . 
وقد رواه الترمذي  من حديث الليث بن سعد  ، وابن لهيعة  به ، وقال : حسن صحيح . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا  وكيع  ، حدثنا بشير بن سلمان  ، عن سيار أبي الحكم  ، عن  طارق بن شهاب  ، عن  عبد الله - هو ابن مسعود -  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :  " من نزل به حاجة ، فأنزلها بالناس كان قمنا أن لا تسهل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل " . 
ثم رواه عن عبد الرزاق  ، عن سفيان  ، عن بشير  ، عن سيار أبي حمزة  ، ثم قال : وهو الصواب  ، وسيار أبو الحكم  لم يحدث عن طارق  
وقوله : ( إن الله بالغ أمره   ) أي : منفذ قضاياه ، وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه ( قد جعل الله لكل شيء قدرا   ) كقوله : ( وكل شيء عنده بمقدار   ) [ الرعد : 8 ] 
				
						
						
