[ ص: 275 ] تفسير سورة القيامة وهي مكية . 
بسم الله الرحمن الرحيم 
( لا أقسم بيوم القيامة    ( 1 ) ولا أقسم بالنفس اللوامة   ( 2 ) أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه   ( 3 ) بلى قادرين على أن نسوي بنانه   ( 4 ) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه   ( 5 ) يسأل أيان يوم القيامة   ( 6 ) فإذا برق البصر   ( 7 ) وخسف القمر   ( 8 ) وجمع الشمس والقمر   ( 9 ) يقول الإنسان يومئذ أين المفر   ( 10 ) كلا لا وزر   ( 11 ) إلى ربك يومئذ المستقر   ( 12 ) ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر   ( 13 ) بل الإنسان على نفسه بصيرة   ( 14 ) ولو ألقى معاذيره   ( 15 ) ) 
قد تقدم غير مرة أن المقسم عليه إذا كان منتفيا ، جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي . والمقسوم عليه هاهنا هو إثبات الميعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من العباد من عدم بعث الأجساد ; ولهذا قال تعالى : ( لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة   ) قال الحسن   : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة . وقال قتادة   : بل أقسم بهما جميعا . هكذا حكاه ابن أبي حاتم   . وقد حكى ابن جرير  ، عن الحسن   والأعرج  أنهما قرآ : " لأقسم [ بيوم القيامة ] " ، وهذا يوجه قول الحسن   ; لأنه أثبت القسم بيوم القيامة ونفى القسم بالنفس اللوامة . والصحيح أنه أقسم بهما جميعا كما قاله قتادة  رحمه الله ، وهو المروي عن ابن عباس   وسعيد بن جبير  ، واختاره ابن جرير   . 
فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة ، فقال قرة بن خالد  ، عن  الحسن البصري  في هذه الآية : إن المؤمن - والله - ما نراه إلا يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ؟ ما أردت بأكلتي ؟ ما أردت بحديث نفسي ؟ وإن الفاجر يمضي قدما ما يعاتب نفسه . 
وقال جويبر   : بلغنا عن الحسن  أنه قال في قوله : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة   ) قال : ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلا يلوم نفسه يوم القيامة . 
وقال ابن أبي حاتم   : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم  ، عن إسرائيل  ، عن سماك   : أنه سأل عكرمة  عن قوله : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة   ) قال : يلوم على الخير والشر : لو فعلت كذا وكذا . 
 [ ص: 276 ] 
ورواه ابن جرير  ، عن أبي كريب  ، عن  وكيع  ، عن إسرائيل   . 
وقال ابن جرير   : حدثنا  محمد بن بشار  ، حدثنا مؤمل  ، حدثنا سفيان  ، عن  ابن جريج  ، عن الحسن بن مسلم  ، عن سعيد بن جبير  في : ( ولا أقسم بالنفس اللوامة   ) قال : تلوم على الخير والشر . 
ثم رواه من وجه آخر عن سعيد  أنه سأل ابن عباس  عن ذلك : فقال : هي النفس اللئوم . 
وقال علي بن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : تندم على ما فات وتلوم عليه . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : اللوامة : المذمومة . 
وقال قتادة   : ( اللوامة   ) الفاجرة . 
قال ابن جرير   : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات . 
وقوله : ( أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه   ) أي : يوم القيامة ، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة ؟ ( بلى قادرين على أن نسوي بنانه    ) قال سعيد بن جبير  والعوفي  ، عن ابن عباس   : أن نجعله خفا أو حافرا . وكذا قال مجاهد  ، وعكرمة  ، والحسن  ، وقتادة  ، والضحاك  ،  وابن جرير   . ووجهه ابن جرير  بأنه تعالى لو شاء لجعل ذلك في الدنيا . 
والظاهر من الآية أن قوله : ( قادرين   ) حال من قوله : ( نجمع   ) أي : أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه ؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه ، أي : قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان ، فنجعل بنانه - وهي أطراف أصابعه - مستوية . وهذا معنى قول  ابن قتيبة  والزجاج   . 
وقوله : ( بل يريد الإنسان ليفجر أمامه   ) قال سعيد  ، عن ابن عباس   : يعني يمضي قدما . 
وقال العوفي  ، عن ابن عباس   : ( ليفجر أمامه   ) يعني : الأمل ، يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة .
وقال مجاهد   ( ليفجر أمامه   ) ليمضي أمامه راكبا رأسه . وقال الحسن   : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما ، إلا من عصمه الله  . 
وروي عن عكرمة   وسعيد بن جبير  والضحاك   والسدي  ، وغير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوف التوبة . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : هو الكافر يكذب بيوم الحساب . وكذا قال ابن زيد  ، وهذا هو الأظهر من المراد ; ولهذا قال بعده ( يسأل أيان يوم القيامة   ) ؟ أي : يقول متى يكون يوم  [ ص: 277 ] القيامة  ؟ وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه ، وتكذيب لوجوده ، كما قال تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون   ) [ سبأ : 29 ، 30 ] . 
وقال تعالى هاهنا : ( فإذا برق البصر   ) قال أبو عمرو بن العلاء   : ( برق   ) بكسر الراء ، أي : حار . وهذا الذي قاله شبيه بقوله تعالى : ( لا يرتد إليهم طرفهم   ) [ إبراهيم : 43 ] ، بل ينظرون من الفزع هكذا وهكذا ، لا يستقر لهم بصر على شيء ; من شدة الرعب . 
وقرأ آخرون : " برق " بالفتح ، وهو قريب في المعنى من الأول . والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور . 
وقوله : ( وخسف القمر   ) أي : ذهب ضوءه . 
( وجمع الشمس والقمر   ) قال مجاهد   : كورا . وقرأ ابن زيد  عند تفسير هذه الآية : ( إذا الشمس كورت وإذا النجوم انكدرت   ) [ التكوير : 1 ، 2 ] وروي عن ابن مسعود  أنه قرأ : " وجمع بين الشمس والقمر " . 
وقوله : ( يقول الإنسان يومئذ أين المفر   ) أي : إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة ، حينئذ يريد أن يفر ويقول : أين المفر ؟ أي : هل من ملجأ أو موئل ؟ قال الله تعالى : ( كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر   ) قال ابن مسعود   وابن عباس   وسعيد بن جبير  ، وغير واحد من السلف : أي لا نجاة . 
وهذه كقوله : ( ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير   ) [ الشورى : 47 ] أي : ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا ( لا وزر   ) أي : ليس لكم مكان تعتصمون فيه ; ولهذا قال : ( إلى ربك يومئذ المستقر   ) أي : المرجع والمصير . 
ثم قال تعالى : ( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر   ) أي : يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها ، كما قال تعالى : ( ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا   ) [ الكهف : 49 ] وهكذا قال هاهنا : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره   ) أي : هو شهيد على نفسه ، عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : ( اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا   ) [ الإسراء : 14 ] . 
وقال علي بن أبي طلحة  ، عن ابن عباس   : ( بل الإنسان على نفسه بصيرة   ) يقول : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجوارحه . 
وقال قتادة   : شاهد على نفسه . وفي رواية قال : إذا شئت - والله - رأيته بصيرا بعيوب الناس وذنوبهم غافلا عن ذنوبه ، وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوبا : يا ابن آدم ، تبصر القذاة في عين أخيك ، وتترك الجذل في عينك لا تبصره . 
 [ ص: 278 ] 
وقال مجاهد   : ( ولو ألقى معاذيره   ) ولو جادل عنها فهو بصير عليها . وقال قتادة   : ( ولو ألقى معاذيره   ) ولو اعتذر يومئذ بباطل لا يقبل منه . وقال  السدي   : ( ولو ألقى معاذيره   ) حجته . وكذا قال ابن زيد  والحسن البصري  ، وغيرهم . واختاره ابن جرير   . 
وقال قتادة  ، عن زرارة  ، عن ابن عباس   : ( ولو ألقى معاذيره   ) يقول : لو ألقى ثيابه . 
وقال الضحاك   : ولو أرخى ستوره ، وأهل اليمن  يسمون الستر : المعذار . 
والصحيح قول مجاهد  وأصحابه ، كقوله : ( ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين   ) [ الأنعام : 23 ] وكقوله ( يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون   ) [ المجادلة : 18 ] . 
وقال العوفي  ، عن ابن عباس   : ( ولو ألقى معاذيره   ) هي الاعتذار ، ألم تسمع أنه قال : ( لا ينفع الظالمين معذرتهم   ) [ غافر : 52 ] وقال ( وألقوا إلى الله يومئذ السلم   ) [ النحل : 87 ] ( فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء   ) [ النحل : 28 ] وقولهم ( والله ربنا ما كنا مشركين   ) 
				
						
						
