إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ( 124 ) ( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ( 125 ) وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ( 126 ) ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ( 127 ) ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( 128 ) ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ( 129 ) )
اختلف المفسرون في هذا الوعد : هل كان يوم بدر أو يوم أحد ؟ على قولين :
أحدهما : أن قوله : ( إذ تقول للمؤمنين ) متعلق بقوله : ( ولقد نصركم الله ببدر ) وروي هذا عن الحسن البصري ، وعامر الشعبي ، وغيرهم . واختاره والربيع بن أنس ، ابن جرير .
قال عن عباد بن منصور ، الحسن في قوله : ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ) قال : هذا يوم بدر . رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال :
حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وهيب عن داود ، عن - أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن عامر - يعني الشعبي كرز بن جابر يمد المشركين ، فشق ذلك عليهم ، فأنزل الله : ( ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ) إلى قوله : ( مسومين ) قال : فبلغت كرزا الهزيمة ، فلم يمد المشركين ولم يمد الله المسلمين بالخمسة .
وقال الربيع بن أنس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف .
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية - على هذا القول - وبين قوله تعالى في قصة بدر : ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين [ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله ] إن الله عزيز حكيم ) [ الأنفال : 9 ، 10 ] فالجواب : أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها ، لقوله : ( مردفين ) بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم . وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران . فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن ، والله أعلم ، قال قتال الملائكة إنما كان يوم بدر عن سعيد بن أبي عروبة ، قتادة : أمد الله المؤمنين يوم بدر بخمسة آلاف .
[ ص: 113 ] القول الثاني : أن هذا الوعد متعلق بقوله : ( وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ) وذلك يوم أحد . وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والزهري ، وغيرهم . لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف ، لأن المسلمين فروا يومئذ - زاد وموسى بن عقبة عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف ، لقوله : ( بلى إن تصبروا وتتقوا ) فلم يصبروا ، بل فروا ، فلم يمدوا بملك واحد .
وقوله : ( بلى إن تصبروا وتتقوا ) يعني : تصبروا على مصابرة عدوكم وتتقوني وتطيعوا أمري .
وقوله : ( ويأتوكم من فورهم هذا ) قال الحسن ، وقتادة ، والربيع ، : أي من وجههم هذا . وقال والسدي مجاهد ، وعكرمة ، : أي من غضبهم هذا . وقال وأبو صالح الضحاك : من غضبهم ووجههم . وقال العوفي عن ابن عباس : من سفرهم هذا . ويقال : من غضبهم هذا .
وقوله : ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) أي : معلمين بالسيما .
وقال عن أبو إسحاق السبيعي ، حارثة بن مضرب ، عن رضي الله عنه ، قال : كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض ، وكان سيماهم أيضا في نواصي خيلهم . علي بن أبي طالب ،
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا هدبة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن في هذه الآية : ( أبي هريرة مسومين ) قال : بالعهن الأحمر .
وقال مجاهد : ( مسومين ) أي : محذقة أعرافها ، معلمة نواصيها بالصوف الأبيض في أذناب الخيل .
وقال العوفي ، عن ابن عباس ، قال : أتت الملائكة محمدا صلى الله عليه وسلم مسومين بالصوف ، فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف .
وقال عكرمة وقتادة ( مسومين ) أي : بسيما القتال ، وقال مكحول : ( مسومين ) بالعمائم .
وروى ابن مردويه ، من حديث عبد القدوس بن حبيب ، عن عطاء بن أبي رباح ، ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : ( مسومين ) قال : " معلمين . وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم سودا ، ويوم حنين عمائم حمرا " . عن
وروي من حديث حصين بن مخارق ، عن سعيد ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر .
وقال ابن إسحاق : حدثني من لا أتهم ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمرا . ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون .
ثم رواه عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن مقسم عن ابن عباس ، فذكر نحوه .
[ ص: 114 ] وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الأحمسي حدثنا حدثنا وكيع ، عن هشام بن عروة ، يحيى بن عباد : أن الزبير [ بن العوام ] رضي الله عنه ، كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها ، فنزلت الملائكة عليهم عمائم صفر .
رواه ابن مردويه من طريق عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عبد الله بن الزبير ، فذكره .
وقوله : ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ) أي : وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالها إلا بشارة لكم وتطييبا لقلوبكم وتطمينا ، وإلا فإنما النصر من عند الله ، الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال : ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم . ويدخلهم الجنة عرفها لهم . ) [ محمد : 4 - 6 ] . ولهذا قال هاهنا : ( وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ) أي : هو ذو العزة التي لا ترام ، والحكمة في قدره والإحكام .
ثم قال تعالى : ( ليقطع طرفا من الذين كفروا ) أي : أمركم بالجهاد والجلاد ، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين . فقال : ( ليقطع طرفا ) أي : ليهلك أمة ( من الذين كفروا أو يكبتهم ) أي : يخزيهم ويردهم بغيظهم لما لم ينالوا منكم ما أرادوا ، ولهذا قال : ( أو يكبتهم فينقلبوا ) أي : يرجعوا ( خائبين ) أي : لم يحصلوا على ما أملوا .
ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له ، فقال : ( ليس لك من الأمر شيء ) أي : بل الأمر كله إلي ، كما قال : ( فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب ) [ الرعد : 40 ] وقال ( ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ) [ البقرة : 272 ] . وقال ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ) [ القصص : 56 ] .
قال محمد بن إسحاق في ليس لك من الأمر شيء ) أي : ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم . قوله : (
ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال : ( أو يتوب عليهم ) أي : مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة ( أو يعذبهم ) أي : في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ، ولهذا قال : ( فإنهم ظالمون ) أي : يستحقون ذلك .
وقال : حدثنا البخاري أخبرنا حبان بن موسى ، عبد الله ، أخبرنا معمر ، الزهري ، حدثني سالم ، عن أبيه : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر [ ص: 115 ] اللهم العن فلانا وفلانا " بعد ما يقول : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد " فأنزل الله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء [ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ] ) . عن
وهكذا رواه من حديث النسائي ، عبد الله بن المبارك وعبد الرزاق ، كلاهما ، عن معمر ، به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو عقيل - قال أحمد : وهو عبد الله بن عقيل ، صالح الحديث ثقة - قال : حدثنا عمر بن حمزة ، سالم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم العن فلانا ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن اللهم العن سهيل بن عمرو ، صفوان بن أمية " . فنزلت هذه الآية : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) فتيب عليهم كلهم . عن
وقال أحمد : حدثنا أبو معاوية الغلابي ، حدثنا خالد بن الحارث ، حدثنا محمد بن عجلان ، عن نافع ، عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو على أربعة قال : فأنزل الله : ( ليس لك من الأمر شيء [ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ] ) قال : وهداهم الله للإسلام . عن
وقال محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم ، حتى أنزل الله : ( ليس لك من الأمر شيء ) الآية .
وقال أيضا : حدثنا البخاري موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو على أحد - أو يدعو لأحد - قنت بعد الركوع ، وربما قال - إذا قال : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد - : " اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، والمستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف " . يجهر بذلك ، وكان يقول - في بعض صلاته في صلاة الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا " لأحياء من أحياء العرب ، حتى أنزل الله ( أبي هريرة ، ليس لك من الأمر شيء ) الآية . عن
وقال : قال البخاري حميد وثابت ، أنس بن مالك : شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، فقال : " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ " . فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء ) وقد أسند هذا الحديث الذي علقه عن رحمه الله . البخاري
وقال في غزوة أحد : حدثنا البخاري يحيى بن عبد الله السلمي ، حدثنا عبد الله - أخبرنا معمر ، [ ص: 116 ] عن الزهري ، حدثني عن أبيه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - إذا رفع رأسه من الركوع ، في الركعة الأخيرة من الفجر - : " اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا " بعد ما يقول : " سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد " . فأنزل الله : ( سالم بن عبد الله ، ليس لك من الأمر شيء ) [ إلى قوله : ( فإنهم ظالمون ) ] .
وعن حنظلة بن أبي سفيان قال : سمعت قال : سالم بن عبد الله صفوان بن أمية ، وسهيل بن عمرو ، فنزلت : ( والحارث بن هشام ، ليس لك من الأمر شيء [ أو يتوب عليهم أو يعذبهم ] فإنهم ظالمون ) . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على
هكذا ذكر هذه الزيادة معلقة مرسلة - مسندة متصلة في مسند البخاري أحمد ، متصلة آنفا .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا حميد ، أنس ، رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد ، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه ، فقال : " كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى ربهم ، عز وجل " . فأنزل الله تعالى : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ) عن
انفرد به مسلم ، فرواه [ عن ] القعنبي ، عن حماد ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكره .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا حدثنا يحيى بن واضح ، الحسين بن واقد ، عن مطر ، قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : " كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم ، وهو يدعوهم إلى الله ؟ " فأنزل الله : ( سالم مولى أبي حذيفة ، ليس لك من الأمر شيء [ أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ] ) . عن
وكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه ، ولم يقل : فأفاق .
ثم قال تعالى : ( ولله ما في السماوات وما في الأرض ) أي : الجميع ملك له ، وأهلهما عبيد بين يديه ( يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) أي : هو المتصرف فلا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، والله غفور رحيم .
[ ص: 117 ]