( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة  إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا   ( 101 ) ) 
يقول تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض   ) أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : ( علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [ وآخرون يقاتلون في سبيل الله ]   ) الآية [ المزمل : 20 ] . 
وقوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) أي : تخففوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر  ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر   وعطاء ،  ويحكى عن مالك  في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   ) 
ومن قائل لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله :  [ ص: 395 ]  ( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم [ فإن الله غفور رحيم ]   ) [ المائدة : 3 ] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره . وهذا قول  الشافعي  وأحمد  وغيرهما من الأئمة . 
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة   : حدثنا  وكيع ،  حدثنا الأعمش ،  عن إبراهيم  قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين   " فأمره أن يصلي ركعتين " وهذا مرسل . 
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، ترخص ، لوجود مطلق السفر . وهذا قول أبي حنيفة  ، رحمه الله ،  والثوري  وداود ،  لعموم الآية وخالفهم الجمهور . وأما قوله : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   ) فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحياء حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا   ) [ النور : 33 ] ، وكقوله : ( وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم   ) الآية [ النساء : 23 ] . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا ابن إدريس  ، حدثنا  ابن جريج  ، عن ابن أبي عمار  ، عن عبد الله بن بابيه  ، عن  يعلى بن أمية  قال : سألت  عمر بن الخطاب  قلت : ( ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   ) وقد أمن الله الناس ؟ فقال لي عمر   : عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : " صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته "  . 
وهكذا رواه مسلم  وأهل السنن ، من حديث  ابن جريج  ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار  ، به . وقال الترمذي   : هذا حديث حسن صحيح . وقال  علي بن المديني   : هذا حديث صحيح من حديث عمر ،  ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة   : حدثنا أبو نعيم  ، حدثنا  مالك بن مغول  ، عن أبي حنظلة الحذاء  قال : سألت ابن عمر  عن صلاة السفر فقال : ركعتان . فقلت : أين قوله تعالى : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا   ) ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم  . 
وقال ابن مردويه   : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى  ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد  ، حدثنا منجاب ،  حدثنا شريك ،  عن قيس بن وهب  ، عن أبي الوداك   : سألت ابن عمر  عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها . 
وقال أبو بكر بن أبي شيبة   : حدثنا  يزيد بن هارون  ، حدثنا ابن عون  ، عن ابن سيرين  ، عن ابن عباس  قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين  . 
وكذا رواه  النسائي ،  عن محمد بن عبد الأعلى  ، عن خالد الحذاء  عن عبد الله بن عون  [ ص: 396 ]  ، به قال أبو عمر بن عبد البر   : وهكذا رواه أيوب  ، ، ويزيد بن إبراهيم التستري  ، عن  محمد بن سيرين  ، عن ابن عباس  ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله . 
قلت : وهكذا رواه الترمذي   والنسائي  جميعا ، عن قتيبة ،  عن هشيم ،  عن منصور بن زاذان  ، عن  محمد بن سيرين  ، عن ابن عباس  ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة  إلى مكة ،  لا يخاف إلا رب العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي   : صحيح . 
وقال  البخاري   : حدثنا أبو معمر  ، حدثنا عبد الوارث  ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق  قال : سمعت أنسا  يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة  إلى مكة ،  فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة   . قلت : أقمتم بمكة  شيئا ؟ قال : أقمنا بها عشرا  . 
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي  ، به . 
وقال  الإمام أحمد   : حدثنا  وكيع ،  حدثنا سفيان ،  عن أبي إسحاق  ، عن حارثة بن وهب الخزاعي  قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى   - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين  . 
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه  من طرق ، عن  أبي إسحاق السبيعي  ، عنه ، به ولفظ  البخاري   : حدثنا أبو الوليد  ، حدثنا شعبة ،  أنبأنا أبو إسحاق ،  سمعت حارثة بن وهب  قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى  ركعتين  . 
وقال  البخاري   : حدثنا مسدد ،  حدثنا يحيى ،  حدثنا عبيد الله  ، أخبرنا نافع ،  عن عبد الله بن عمر  قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر  وعمر ،  ومع عثمان  صدرا من إمارته ، ثم أتمها  . 
وكذا رواه مسلم  من حديث يحيى بن سعيد القطان [ الأنصاري ]  به . 
وقال  البخاري   : حدثنا قتيبة ،  حدثنا عبد الواحد  ، عن الأعمش ،  حدثنا إبراهيم ،  سمعت عبد الرحمن بن يزيد  يقول : صلى بنا  عثمان بن عفان  ، رضي الله عنه ، بمنى  أربع ركعات ، فقيل في ذلك  لعبد الله بن مسعود  فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى  ركعتين ، وصليت مع أبي بكر  بمنى  ركعتين ، وصليت مع  عمر بن الخطاب  بمنى  ركعتين ، فليت حظي مع أربع ركعات ركعتان متقبلتان  . 
ورواه  البخاري  أيضا من حديث الثوري ،  عن الأعمش ،  به . وأخرجه مسلم  من طرق ، عنه . منها عن قتيبة  كما تقدم . 
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف   ; ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية . وهو قول مجاهد ،  والضحاك ،   [ ص: 397 ]  والسدي  كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان  ، عن عروة بن الزبير  ، عن عائشة ،  رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ; وزيد في صلاة الحضر  . 
وقد روى هذا الحديث  البخاري  عن عبد الله بن يوسف التنيسي  ، ومسلم  عن يحيى بن يحيى  ، وأبو داود  عن القعنبي ،   والنسائي  عن قتيبة ،  أربعتهم عن مالك ،  به . 
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ،  فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ; لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) ؟ 
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه  الإمام أحمد   : حدثنا  وكيع ،  حدثنا سفيان   - وعبد الرحمن  حدثنا سفيان   - عن زبيد اليامي  ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى  ، عن عمر ،  رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم  . 
وهكذا رواه  النسائي   وابن ماجه  ،  وابن حبان  في صحيحه ، من طرق عن زبيد اليامي  به . 
وهذا إسناد على شرط مسلم   . وقد حكم مسلم  في مقدمة كتابه بسماع  ابن أبي ليلى  ، عن عمر   . وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله . وإن كان  يحيى بن معين  ، وأبو حاتم  ،  والنسائي  قد قالوا : إنه لم يسمع منه . وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق  أبي يعلى الموصلي  ، من طريق الثوري ،  عن زبيد ،  عن عبد الرحمن [ بن أبي ليلى ]  عن الثقة ، عن عمر  فذكره ، وعند ابن ماجه  من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد  ، عن زبيد ،  عن عبد الرحمن  ، عن  كعب بن عجرة  ، عن عمر ،  به . ، فالله أعلم . 
وقد روى مسلم  في صحيحه ، وأبو داود  ،  والنسائي ،   وابن ماجه  ، من حديث  أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري   - زاد مسلم   والنسائي   : وأيوب بن عائد   - كلاهما عن بكير بن الأخنس  ، عن مجاهد ،  عن  عبد الله بن عباس  قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [ هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن  أسامة بن زيد الليثي   : حدثني الحسن بن مسلم بن يساف  عن طاوس  عن ابن عباس  قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين ] فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر  . 
ورواه ابن ماجه  من حديث أسامة بن زيد  ، عن طاوس  نفسه . 
 [ ص: 398 ] 
فهذا ثابت عن ابن عباس ،  رضي الله عنهما ولا ينافي ما تقدم عن عائشة  لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ،  والله أعلم . لكن اتفق حديث ابن عباس   وعائشة  على أن صلاة السفر ركعتان ،  وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ،  رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ; ولهذا قال : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا ]   ) . 
ولهذا قال بعدها : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة [ فلتقم طائفة منهم معك ]   ) الآية فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ; ولهذا لما عقد  البخاري  
" كتاب صلاة الخوف " صدره بقوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) إلى قوله : ( إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا   ) 
وهكذا قال جويبر ،  عن الضحاك  في قوله : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه . 
وقال أسباط ،  عن  السدي  في قوله : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم   ) الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة . 
وقال ابن أبي نجيح  ، عن مجاهد   : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة   ) يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان  والمشركون بضجنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم  . 
روى ذلك ابن أبي حاتم   . ورواه ابن جرير  ، عن مجاهد   والسدي ،  وعن جابر   وابن عمر  ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب . وقال ابن جرير   : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم  ، حدثنا ابن أبي فديك  ، حدثنا ابن أبي ذئب  ، عن ابن شهاب  ، عن  أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد   : أنه قال  لعبد الله بن عمر   : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله   : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به  . 
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر  على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر  بفعل الشارع لا بنص القرآن . 
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير  أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي  ، حدثنا محمد بن جعفر  ، حدثنا شعبة ،  عن سماك الحنفي   : سألت ابن عمر  عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير  [ ص: 399 ] قصر ، إنما القصر صلاة المخافة . فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة  . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					