( وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( 5 ) )
اختلف المفسرون في هاهنا ، ما هي ؟ فذهب المراد بالأشهر الحرم ابن جرير إلى أنها [ الأربعة ] المذكورة في قوله تعالى : ( منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) الآية [ التوبة : 36 ] قاله أبو جعفر الباقر ، لكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم وهذا الذي ذهب إليه حكاه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب الضحاك أيضا ، وفيه نظر ، [ ص: 111 ] والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، وبه قال مجاهد ، ، وعمرو بن شعيب ، ومحمد بن إسحاق وقتادة ، ، والسدي : أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها في قوله : ( وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) [ التوبة : 2 ] ثم قال ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم ) أي : إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم ، وأجلناهم فيها ، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ؛ ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة .
وقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) أي : من الأرض . وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم بقوله : ( القتال في الحرم ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ) [ البقرة : 191 ] .
وقوله : ( وخذوهم ) أي : وأسروهم ، إن شئتم قتلا وإن شئتم أسرا .
وقوله : ( واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ) أي : لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم حتى تضيقوا عليهم الواسع ، وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ؛ ولهذا قال : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم )
ولهذا اعتمد الصديق - رضي الله عنه - في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها ، حيث حرمت قتالهم بشرط هذه الأفعال ، وهي الدخول في الإسلام ، والقيام بأداء واجباته . ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف الأركان بعد الشهادة الصلاة التي هي حق الله - عز وجل - وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ؛ ولهذا كثيرا ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : الحديث . أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة
وقال أبو إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن - رضي الله عنه - قال : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ومن لم يزك فلا صلاة له . عبد الله بن مسعود
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة ، وقال : يرحم الله أبا بكر ، ما كان أفقهه .
وقال : حدثنا الإمام أحمد علي بن إسحاق ، أنبأنا ، أنبأنا عبد الله بن المبارك حميد الطويل ، عن أنس ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : . أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا [ ص: 112 ] رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا ، فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما عليهم
ورواه في صحيحه وأهل السنن إلا البخاري ابن ماجه ، من حديث ، به . عبد الله بن المبارك
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، حدثنا ، أخبرنا عبيد الله بن موسى أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس [ عن أنس ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : - قال : وقال من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده ، وعبادته لا يشرك به شيئا ، فارقها والله عنه راض أنس : هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم ، قبل هرج الأحاديث ، واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل ، قال الله تعالى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) - قال : توبتهم خلع الأوثان ، وعبادة ربهم ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى : ( فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ) [ التوبة : 11 ] .
ورواه ابن مردويه .
ورواه محمد بن نصر المروزي في كتاب " الصلاة " له : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، أنبأنا حدثنا حكام بن سلم أبو جعفر الرازي ، به سواء .
وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك بن مزاحم : إنها نسخت كل عهد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أحد من المشركين ، وكل عهد ، وكل مدة .
وقال العوفي ، عن ابن عباس في هذه الآية : لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ، منذ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم ، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل أربعة أشهر ، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من أول شهر ربيع الآخر .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية ، قال : أمره الله تعالى أن يضع السيف فيمن عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العقد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري قال : قال سفيان قال [ ص: 113 ] : بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف : سيف في المشركين من العرب قال الله : ( علي بن أبي طالب فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ وخذوهم ] )
هكذا رواه مختصرا ، وأظن أن السيف الثاني هو قتال أهل الكتاب في قوله : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) [ التوبة : 29 ] والسيف الثالث : قتال المنافقين في قوله : ( ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ) [ واغلظ عليهم ] ) [ التوبة : 73 ، والتحريم : 9 ] والرابع : قتال الباغين في قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله ) [ الحجرات : 9 ] .
ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك : هي منسوخة بقوله تعالى : ( والسدي فإما منا بعد وإما فداء ) [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .