قال أبو جعفر : يقول - تعالى ذكره - : واذكر ، يا عيسى ، أيضا نعمتي عليك ، إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قالوا لعيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء - ف " إذ " الثانية من صلة " أوحيت " .
واختلفت القرأة في قراءة قوله : " يستطيع ربك "
فقرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين : ( هل تستطيع ) بالتاء ( ربك ) بالنصب ، بمعنى : هل تستطيع أن تسأل ربك؟ أو : هل تستطيع أن تدعو ربك؟ [ ص: 219 ] أو : هل تستطيع وترى أن تدعوه؟ وقالوا : لم يكن الحواريون شاكين أن الله - تعالى ذكره - قادر أن ينزل عليهم ذلك ، وإنما قالوا لعيسى : هل تستطيع أنت ذلك؟
12993 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن قال : قالت ابن أبي مليكة عائشة : كان الحواريون لا يشكون أن الله قادر أن ينزل عليهم مائدة ، ولكن قالوا : يا عيسى هل تستطيع ربك؟
12994 - حدثني أحمد بن يوسف التغلبي قال : حدثنا قال : حدثنا القاسم بن سلام ابن مهدي ، عن جابر بن يزيد بن رفاعة ، عن حسان بن مخارق ، عن سعيد بن جبير : أنه قرأها كذلك : ( هل تستطيع ربك ) ، وقال : تستطيع أن تسأل ربك . وقال : ألا ترى أنهم مؤمنون؟
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والعراق : ( هل يستطيع ) بالياء ( ربك ) ، بمعنى : أن ينزل علينا ربك ، كما يقول الرجل لصاحبه : " أتستطيع أن تنهض معنا في كذا " ؟ وهو يعلم أنه يستطيع ، ولكنه إنما يريد : أتنهض معنا فيه؟ وقد يجوز أن يكون مراد قارئه كذلك : هل يستجيب لك ربك ويطيعك أن تنزل علينا؟ [ ص: 220 ]
قال أبو جعفر : وأولى القراءتين عندي بالصواب ، قراءة من قرأ ذلك : ( هل يستطيع ) بالياء ( ربك ) برفع " الرب " بمعنى : هل يستجيب لك إن سألته ذلك ويطيعك فيه؟
وإنما قلنا ذلك أولى القراءتين بالصواب ، لما بينا قبل من أن قوله : " إذ قال الحواريون " من صلة : " إذ أوحيت " وأن معنى الكلام : وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي ، إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك؟ فبين إذ كان ذلك كذلك ، أن الله - تعالى ذكره - قد كره منهم ما قالوا من ذلك واستعظمه ، وأمرهم بالتوبة ومراجعة الإيمان من قيلهم ذلك ، والإقرار لله بالقدرة على كل شيء ، وتصديق رسوله فيما أخبرهم عن ربهم من الأخبار . وقد قال عيسى لهم ، عند قيلهم ذلك له ، استعظاما منه لما قالوا : " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " . ففي استتابة الله إياهم ، ودعائه لهم إلى الإيمان به وبرسوله - صلى الله عليه وسلم - عند قيلهم ما قالوا من ذلك ، واستعظام نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كلمتهم ، الدلالة الكافية من غيرها على صحة القراءة في ذلك بالياء ورفع " الرب " إذ كان لا معنى في قولهم لعيسى ، لو كانوا قالوا له : هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ أن يستكبر هذا الاستكبار .
فإن ظن ظان أن قولهم ذلك له إنما استعظم منهم ، لأن ذلك منهم كان مسألة آية ، فقد ظن خطأ . فإن الآية ، إنما يسألها الأنبياء من كان بها مكذبا [ ص: 221 ] ليتقرر عنده حقيقة ثبوتها وصحة أمرها ، كما كانت مسألة قريش نبينا محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يحول لهم الصفا ذهبا ، ويفجر فجاج مكة أنهارا ، من سأله من مشركي قومه وكما كانت مسألة صالح الناقة من مكذبي قومه ومسألة شعيب أن يسقط كسفا من السماء ، من كفار من أرسل إليه .
فإن كان الذين سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء ، على هذا الوجه كانت مسألتهم ، فقد أحلهم الذين قرءوا ذلك ب " التاء " ونصب " الرب " محلا أعظم من المحل الذي ظنوا أنهم يحيدون بهم عنه أو يكونوا سألوا ذلك عيسى وهم موقنون بأنه لله نبي مبعوث ورسول مرسل ، وأن الله - تعالى ذكره - على ما سألوا من ذلك قادر .
فإن كانوا سألوا ذلك وهم كذلك ، وإنما كانت مسألتهم إياه ذلك على نحو ما يسأل أحدهم نبيه ، إذا كان فقيرا ، أن يسأل له ربه أن يغنيه وإن عرضت له حاجة ، أن يسأل له ربه أن يقضيها ، فليس ذلك من مسألة الآية في شيء ، بل ذلك سؤال ذي حاجة عرضت له إلى ربه ، فسأل نبيه مسألة ربه أن يقضيها له .
وخبر الله - تعالى ذكره - عن القوم ، ينبئ بخلاف ذلك . وذلك أنهم قالوا لعيسى ، إذ قال لهم : " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " " نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا " . [ ص: 222 ] فقد أنبأ هذا من قيلهم ، أنهم لم يكونوا يعلمون أن عيسى قد صدقهم ، ولا اطمأنت قلوبهم إلى حقيقة نبوته . فلا بيان أبين من هذا الكلام ، في أن القوم كانوا قد خالط قلوبهم مرض وشك في دينهم وتصديق رسولهم ، وأنهم سألوا ما سألوا من ذلك اختبارا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
12995 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ليث ، عن عقيل ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - : أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوما ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم؟ فإن أجر العامل على من عمل له! ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : " إن أجر العامل على من عمل له " وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوما ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوما إلا أطعمنا حين نفرغ طعاما ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى : " اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " " قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين " إلى قوله : " لا أعذبه أحدا من العالمين " . قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
12996 - حدثني محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن مفضل قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " قالوا : هل يطيعك ربك ، إن سألته؟ فأنزل الله عليهم مائدة من السماء فيها جميع الطعام إلا اللحم ، فأكلوا منها . [ ص: 223 ]
وأما " المائدة " فإنها " الفاعلة " من : " ماد فلان القوم يميدهم ميدا " إذا أطعمهم ومارهم ، ومنه قول رؤبة :
نهدي رؤوس المترفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد
يعني بقوله : " الممتاد " المستعطى . ف " المائدة " المطعمة ، سميت " الخوان " بذلك ، لأنها تطعم الآكل مما عليها . و " المائد " المدار به في البحر ، يقال : " ماد يميد ميدا " .
وأما قوله : " قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين " فإنه يعني : قال عيسى للحواريين القائلين له : " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " راقبوا الله ، أيها القوم ، وخافوه أن ينزل بكم من الله عقوبة على قولكم هذا ، فإن الله لا يعجزه شيء أراده ، وفي شككم في قدرة الله على إنزال مائدة من السماء ، كفر به ، فاتقوا الله أن ينزل بكم نقمته " إن كنتم مؤمنين " يقول : إن كنتم مصدقي على ما أتوعدكم به من عقوبة الله إياكم على قولكم : " هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء " ؟