( في جنات النعيم ) يعني : في بساتين النعيم
( على سرر متقابلين ) يعني : أن بعضهم يقابل بعضا ، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض . وقوله ( يطاف عليهم بكأس من معين ) يقول - تعالى ذكره - : يطوف الخدم عليهم بكأس من خمر جارية ظاهرة لأعينهم غير غائرة .
كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يطاف عليهم بكأس من معين ) قال : كأس من خمر جارية ، والمعين : هي الجارية .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار أبو عاصم قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله ( بكأس من معين ) قال : كل كأس في القرآن فهو خمر .
حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قال : كل كأس في القرآن فهو خمر
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن في قوله ( السدي ، بكأس من معين ) قال : الخمر . والكأس عند العرب : كل إناء فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب لم يكن كأسا ، ولكنه يكون إناء .
وقوله ( بيضاء لذة للشاربين ) يعني بالبيضاء : الكأس ، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء ، ولم يقل أبيض ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : صفراء .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن في قوله ( بيضاء ) قال السدي ، : في قراءة السدي عبد الله : صفراء [ ص: 37 ] وقوله ( لذة للشاربين ) يقول : هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها .
وقوله ( لا فيها غول ) يقول : لا في هذه الخمر غول ، وهو أن تغتال عقولهم : يقول : لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها ، كما قال الشاعر :
وما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول
والعرب تقول : ليس فيها غيلة وغائلة وغول . بمعنى واحد ، ورفع غول ولم ينصب بلا لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول ، وكذلك تفعل العرب في التبرئة إذا حالت بين لا والاسم بحرف من حروف الصفات - رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله ( لا فيها غول ) أن يكون معنيا به : ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه ، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه ، أو ينال بداهية عظيمة : غال فلانا غول . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ليس فيها صداع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها صداع .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى فتشكى منه بطونهم .
[ ص: 38 ] ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( لا فيها غول ) قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( لا فيها غول ) قال : وجع بطن .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لا فيها غول ) قال : الغول ما يوجع البطون ، وشارب الخمر هاهنا يشتكي بطنه .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها وجع بطن ، ولا صداع رأس .
وقال آخرون : معنى ذلك : أنها لا تغول عقولهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن ( السدي لا فيها غول ) قال : لا تغتال عقولهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى ولا مكروه .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( لا فيها غول ) قال : أذى ولا مكروه .
حدثنا محمد بن سنان القزاز قال : ثنا عبد الله بن يزيعة قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( لا فيها غول ) قال : ليس فيها أذى ولا مكروه .
[ ص: 39 ] وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها إثم .
ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ، وذلك أن الغول في كلام العرب : هو ما غال الإنسان فذهب به ، فكل من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل ، فقالوا : غالت فلانا غول . فالذاهب العقل من شرب الشراب ، والمشتكي البطن منه ، والمصدع الرأس من ذلك ، والذي ناله منه مكروه - كلهم قد غالته غول .
فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله - تعالى ذكره - قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غول ، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال - جل ثناؤه - ( لا فيها غول ) فيعم بنفي كل معاني الغول عنه ، وأعم ذلك أن يقال : لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل ، ولا غير ذلك .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( ينزفون ) بفتح الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها تنزف عقولهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " ولا هم عنها ينزفون " بكسر الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها ينفد شرابهم .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم ، ولا يسكرهم شربهم إياه ، فيذهب عقولهم .
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا تذهب عقولهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) يقول : لا تذهب عقولهم .
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف فتذهب [ ص: 40 ] عقولهم .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تذهب عقولهم .
حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن في قوله ( السدي ، ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف عقولهم .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف العقول .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تغلبهم على عقولهم .
وهذا التأويل الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا تأويلها ، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينزفون وينزفون كلتيهما ، وذلك أن العرب تقول : قد نزف الرجل فهو منزوف : إذا ذهب عقله من السكر ، وأنزف فهو منزف ، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر ، وأما إذا فنيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنزف القوم بالألف .
ومن الإنزاف بمعنى : ذهاب العقل من السكر - قول الأبيرد :
لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتم لبئس الندامى كنتم آل أبجرا