[ ص: 13 ] لما ذكر تعالى من اختصه بالإسراء وهو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن آتاه التوراة وهو موسى - عليه السلام - وأنها هدى لبني إسرائيل ، وذكر ما قضى عليهم فيها من التسليط عليهم بذنوبهم ، كان ذلك رادعا من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف الله به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة ، وكل كتاب إلهي ، وأنه يهدي للطريقة أو الحالة التي هي أقوم . وقال الضحاك والكلبي ( التي هي أقوم ) هي شهادة التوحيد . وقال والفراء مقاتل : للأوامر والنواهي و ( أقوم ) هنا أفعل التفضيل على قول إذ قدر أقوم الحالات ، وقدره غيره أقوم مما عداها أو من كل حال ، والذي يظهر من حيث المعنى أن ( الزجاج أقوم ) هنا لا يراد بها التفضيل ؛ إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها ، وفضلت هذه عليها ، وإنما المعنى : التي هي قيمة أي : مستقيمة كما قال : ( وذلك دين القيمة ) و ( فيها كتب قيمة ) أي : مستقيمة الطريقة ، قائمة بما يحتاج إليه من أمر الدين . وقال : ( التي هي أقوم ) للحالة التي هي أقوم الحالات وأشدها أو للملة أو للطريقة ، وأينما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في إبهام الموصوف لحذفه من فخامة تفقد مع إيضاحه . انتهى . الزمخشري
( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات ) قيد في الإيمان الكامل إذ العمل هو كمال الإيمان ، نبه على الحالة الكاملة ; ليتحلى بها المؤمن ، والمؤمن المفرط في عمله له بإيمانه حظ في عمل الصالحات ، والأجر الكبير الجنة . وقال : فإن قلت : كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة ؟ قلت : كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي ، وإما مشرك ، وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك . انتهى . وهذا مكابرة بل وقع في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بعض المؤمنين هنات وسقطات ، بعضها مذكور في القرآن ، وبعضها مذكور في الحديث الصحيح الثابت . الزمخشري
( وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) عطف على قوله : ( أن لهم أجرا كبيرا ) بشروا بفوزهم بالجنة ، وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار ، إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم ، فهما بشارتان ، وفيه وعيد للكفار . وقال : ويجوز أن يراد ويخبر بأن الذين لا يؤمنون . انتهى . فلا يكون إذ ذاك داخلا تحت البشارة . وفي قوله : ( الزمخشري وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة ) دليل على أن من آمن بالآخرة لا يعد له عذاب أليم ، وأنه ليس عمل الصالحات شرطا في نجاته من العذاب .
وقرأ الجمهور ( ويبشر ) مشددا مضارع بشر المشدد . وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والأخوان ( ويبشر ) مضارع بشر المخفف ومعنى ( أعتدنا ) أعددنا وهيأنا ، وهذه الآية جاءت عقب ذكر أحوال اليهود ، واندرجوا فيمن لا يؤمن بالآخرة ; لأن أكثرهم لا يقول بالثواب والعقاب الجسماني ، وبعضهم قال : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) فلم يؤمنوا بالآخرة حقيقة الإيمان بها .
( ويدع الإنسان ) قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر ، ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة ، كقول النضر : ( فأمطر علينا حجارة ) الآية . وكتب ( ويدع ) بغير واو على حسب السمع ، والإنسان هنا ليس واحدا معينا ، والمعنى : أن في طباع الإنسان أنه إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه ، كما يدعو بالخير أن يصيبه ، ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره . وعن سلمان الفارسي : أشار به إلى وابن عباس آدم لما نفخ الروح في رأسه عطس وأبصر ، فلما مشى الروح في بدنه قبل ساقه أعجبته نفسه فذهب يمشي مستعجلا فلم يقدر ، أو المعنى ذو عجلة موروثة من أبيكم . انتهى . وهذا القول تنبو عنه ألفاظ [ ص: 14 ] الآية . وقالت فرقة : هذه الآية ذم لقريش الذين قالوا : ( اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) الآية . وكان الأولى أن يقولوا : فاهدنا إليه وارحمنا . وقالت فرقة : هي معاتبة للناس على أنهم إذا نالهم شر وضر دعوا وألحوا في الدعاء واستعجلوا الفرج ، مثل الدعاء الذي كان يجب أن يدعوه في حالة الخير . انتهى . والباء في ( بالشر ) و ( بالخير ) على هذا بمعنى في ، والمدعو به ليس الشر ولا الخير ، ويراد على هذا أن تكون حالتاه في الشر والخير متساويتين في الدعاء والتضرع لله والرغبة والذكر ، وينبوا عن هذا المعنى قوله : ( دعاءه ) إذ هو مصدر تشبيهي يقتضي وجوده ، وفي هذا القول شبه ( دعاءه ) في حالة الشر بدعاء مقصود كان ينبغي أن يوجد في حالة الخير .
وقيل : المعنى ( ويدع الإنسان ) في طلب المحرم ، كما يدعو في طلب المباح ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) لما ذكر تعالى القرآن وأنه هاد إلى الطريقة المستقيمة ، ذكر ما أنعم به مما لم يكمل الانتفاع إلا به ، وما دل على توحيده من عجائب العالم العلوي ، وأيضا لما ذكر عجلة الإنسان وانتقاله من حال إلى حال ذكر أن كل هذا العالم كذلك في الانتقال لا يثبت على حال ، فنور عقب ظلمة وبالعكس ، وازدياد نور وانتقاض . والظاهر أن ( الليل والنهار ) مفعول أول لجعل بمعنى صير ، و ( آيتين ) ثاني المفعولين ، ويكونان في أنفسهما آيتين ; لأنهما علامتان للنظر والعبرة ، وتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار للتبيين كإضافة العدد إلى المعدود ، أي فمحونا الآية التي هي الليل ، وجعلنا الآية التي هي النهار مبصرة . وقيل : هو على حذف مضاف فقدره بعضهم ، وجعلنا نيري الليل والنهار آيتين ، وقدره بعضهم وجعلنا ذوي الليل والنهار أي : صاحبي الليل والنهار ، وعلى كلا التقديرين يراد به الشمس والقمر ، ويظهر أن ( آيتين ) هو المفعول الأول ، و ( الليل والنهار ) ظرفان في موضع المفعول الثاني ، أي : وجعلنا في الليل والنهار آيتين . وقال الكرماني : ليس جعل هنا بمعنى صير ; لأن ذلك يقتضي حالة تقدمت نقل الشيء عنها إلى حالة أخرى ، ولا بمعنى سمى وحكم ، والآية فيها إقبال كل واحد منهما وإدباره من حيث لا يعلم ، ونقصان أحدهما بزيادة الآخر ، وضوء النهار وظلمة الليل ( فمحونا آية الليل ) إذا قلنا أن الليل والنهار هما المجعولان آيتين فمحو آية الليل عبارة عن السواد الذي فيه ، بل خلق أسود أول حاله ، ولا تقتضي الفاء تعقيبا ، وهذا كما يقول : بنيت داري فبدأت بالأس . وإذا قلنا : إن الآيتين هما الشمس والقمر ، فقيل : محو القمر كونه لم يجعل له نورا . وقيل : محوه طلوعه صغيرا ثم ينمو ثم ينقص حتى يستر . وقيل : محوه نقصه عما كان خلق عليه من الإضاءة ، وأنه جعل نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك ، فمحا من نور القمر حتى صار على جزء واحد ، وجعل ما محي منه زائدا في نور الشمس ، وهذا مروي عن علي . وابن عباس
وقال ابن عيسى : جعلناها لا تبصر المرئيات فيها كما لا يبصر ما محي من الكتاب . قال : وهذا من البلاغة الحسنة جدا . وقال : ( الزمخشري فمحونا آية الليل ) أي : جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه ، مظلما لا يستبان منه شيء كما لا يستبان ما في اللوح الممحو ، وجعلنا النهار مبصرا أي : يبصر فيه الأشياء وتستبان ، أو ( فمحونا آية الليل ) التي هي القمر حيث لم يخلق له شعاع كشعاع الشمس فترى به الأشياء رؤية بينة ، وجعلنا الشمس ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء . انتهى . ونسب الإبصار إلى ( آية النهار ) على سبيل المجاز ، كما تقول : ليل قائم ونائم ، أي : يقام فيه وينام فيه . فالمعنى : يبصر فيها .
وقيل : معنى ( مبصرة ) مضيئة . وقيل : هو من باب أفعل ، والمراد به غير من أسند أفعل إليه كقوله : أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء ، وأضعف إذا كان دوابه ضعافا فأبصرت الآية إذا كان أصحابها بصراء . وقرأ قتادة وعلي بن الحسين ( مبصرة ) بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر أقيم مقام الاسم ، وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة [ ص: 15 ] كقولهم : أرض مسبعة ومكان مضبة ، وعلل المحو والإبصار بابتغاء الفضل وعلم عدد السنين والحساب ، وولي التعليل بالابتغاء ما وليه من آية النهار ، وتأخر التعليل بالعلم عن آية الليل . وجاء في قوله : ( ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ) البداءة بتعليل المتقدم ، ثم تعليل المتأخر بالعلة المتأخرة ، وهما طريقان تقدم الكلام عليهما .
ومعنى ( لتبتغوا ) لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم ( والحساب ) للشهور والأيام والساعات ، ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية الليل لا من جهة آية النهار ( وكل شيء ) مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم ( فصلناه ) بيناه تبيينا غير ملتبس ، والظاهر أن نصب ( وكل شيء ) على الاشتغال ، وكان ذلك أرجح من الرفع لسبق الجملة الفعلية في قوله : ( وجعلنا الليل والنهار ) وأبعد من ذهب إلى أن ( وكل شيء ) معطوف على قوله : ( والحساب ) والطائر .
قال : ما قدر له وعليه ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف إذ كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة ، وكثر ذلك حتى فعلته بالظباء وحيوان الفلاة ، وسمي ذلك كله تطيرا . وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في أوجز لفظ ، وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء ، وألزم حظه وعمله ومكسبه في عنقه ، فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان بالطائر ، قاله ابن عباس مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في الأمور على الطائر الميمون وبأسعد طائر ، ومنه ما طار في المحاصة والسهم ، ومنه فطار لنا من القادمين أي : كان ذلك حظنا . عثمان بن مظعون
وعن : ( طائره ) عمله ، وعن ابن عباس : كتابه الذي يطير إليه . وعن السدي أبي عبيدة : الطائر عند العرب الحظ ، وهو الذي تسميه البخت . وعن الحسن : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلدتها في عنقك ، وخص العنق ; لأنه محل الزينة والشين ، فإن كان خيرا زانه كما يزين الطوق والحلي ، وإن كان شرا شانه كالغل في الرقبة . وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء " طيره " . وقرئ : ( في عنقه ) بسكون النون . وقرأ الجمهور ، ومنهم ابن جعفر : ( ونخرج ) بنون ، مضارع أخرج . ( كتابا ) بالنصب . وعن أبي جعفر أيضا ويخرج بالياء مبنيا للمفعول ( كتابا ) أي : ويخرج الطائر كتابا . وعنه أيضا " كتاب " بالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله . وقرأ الحسن وابن محيصن ومجاهد : " ويخرج " بفتح الياء وضم الراء أي : طائره كتابا إلا الحسن فقرأ : " كتاب " على أنه فاعل يخرج . وقرأت فرقة : ويخرج بضم الياء وكسر الراء أي : ويخرج الله . وقرأ الجمهور ( يلقاه ) بفتح الياء وسكون اللام . وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه ( يلقاه ) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف . ( منشورا ) غير مطوي ليمكنه قراءته ، و ( يلقاه ) و ( منشورا ) صفتان لكتاب ، ويجوز أن يكون ( منشورا ) حالا من مفعول يلقاه ( اقرأ كتابك ) معمول لقول محذوف أي : يقال له : ( اقرأ كتابك ) . وقال قتادة : يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا . وقال وغيره : و ( بنفسك ) فاعل ( كفى ) . انتهى . وهذا مذهب الجمهور . والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ، ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الاسم بكفى . قال الشاعر . الزمخشري
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
وقال الآخر :
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
ولا أرض أبقل إبقالها
( من اهتدى ) الآية . قالت فرقة : نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود ، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة . وقيل : نزلت في الوليد هذا ، قال : يا أهل مكة اكفروا بمحمد وإثمكم علي ، وتقدم تفسير ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) في آخر الأنعام ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) غيا انتفاء التعذيب ببعثة الرسول - عليه السلام ، والمعنى : حتى يبعث رسولا فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله ، وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما ، ويدل على الشمول قوله في الهلاك في الدنيا بعد هذه الآية ( وإذا أردنا ) وفي الآخرة ( فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) وآي كثيرة نص فيها على الهلاك في الدنيا بأنواع من العذاب حين كذبت الرسل . وقوله في عذاب الآخرة كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير وكلما تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين . وقوله : ( وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) وذهب الجمهور إلى أن هذا في حكم الدنيا ، أي : أن الله لا يهلك أمة بعذاب إلا من بعد الرسالة إليهم والإنذار .قال : فإن قلت : الحجة لازمة لهم قبل بعثة الرسول ; لأن معهم أدلة العقل التي بها يعرف الله ، وقد أغفلوا النظر وهم متمكنون منه ، واستيجابهم العذاب لإغفالهم النظر فيما معهم ، ركونهم لذلك الإغفال الشرائع التي لا سبيل إليها إلا بالتوقيف ، والعمل بها لا يصح إلا بعد الإيمان . قلت : بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من جملة التنبيه على النظر والإيقاظ من رقدة الغفلة ; لئلا يقولوا كنا غافلين ، فلولا بعثت إلينا رسولا ينبهنا على النظر في أدلة العقل . انتهى . وقال الزمخشري مقاتل : المعنى : وما كنا مستأصلين في الدنيا لما اقتضته الحكمة الإلهية ، حتى يبعث رسولا ؛ إقامة للحجة عليهم وقطعا للعذر عنهم ، كما فعلنا بعاد وثمود والمؤتفكات وغيرها .