[ ص: 100 ] ( أم ) هنا هي المنقطعة فتتقدر ببل والهمزة . قيل : للإضراب عن الكلام الأول بمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال ، والهمزة للاستفهام . وزعم بعض النحويين أن ( أم ) هنا بمعنى الهمزة فقط ، والظاهر في ( أم حسبت ) أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . فقال مجاهد : لم ينهه عن التعجب [ ص: 101 ] وإنما أراد كل آياتنا كذلك . وقال قتادة : لا يتعجب منها فالعجائب في خلق السماوات والأرض أكثر .
وقال : سألوك عن ذلك ليجعلوا جوابك علامة لصدقك وكذبك ، وسائر آيات القرآن أبلغ وأعجب وأدل على صدقك . ابن عباس
وقال : تقرير له عليه السلام على حسبانه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا بمعنى إنكار ذلك عليه أن لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة ، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم . قال : وهو قول الطبري ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق . وقال الزهراوي : يحتمل معنى آخر وهو أن يكون استفهاما له هل علم أن أصحاب الكهف كانوا عجبا ، بمعنى إثبات أنهم عجب ، ويكون فائدة تقريره جمع نفسه للأمر ; لأن جوابه أن يقول لم أحسب ولا علمته ، فيقال له وصفهم عند ذلك ، والتجوز في هذا التأويل هو في لفظة حسبت . انتهى . وقال غيره : معناه أعلمت أي : لم تعلمه حتى أعلمتك .
وقال : ذكر من الآيات الكلية تزيين الأرض بما خلق فوقها من الأجناس التي لا حصر لها ، وإزالة ذلك كله كأن لم يكن ثم قال : ( الزمخشري أم حسبت ) يعني أن ذلك من وإبقاء حياتهم مدة طويلة . انتهى . وقيل : أي أم علمت أي : فاعلم أنهم كانوا عجبا كما تقول : أعلمت أن فلانا فعل كذا أي : قد فعل فاعلمه . وقيل : الخطاب للسامع ، والمراد المشركون أي : قل لهم ( أم حسبتم ) الآية . والظن قد يقام مقام العلم ، فكذلك حسبت بمعنى علمت ، والكهف تقدم تفسيره في المفردات . وعن قصة أهل الكهف أنس : الكهف الجبل . قال القاضي : وهذا غير مشهور في اللغة . وقال مجاهد : تفريج بين الجبلين ، والظاهر ( أن أصحاب الكهف والرقيم ) هم الفتية المذكورون هنا . وعن أنهم قوم كان حالهم كأصحاب الكهف . فقال ابن المسيب الضحاك : الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا أموات كلهم نيام على هيئة أصحاب الكهف . وقيل : هم أصحاب الغار ففي الحديث عن أنه سمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - يذكر الرقيم قال : ( النعمان بن بشير ) . وذكر الحديث وهو حديث المستأجر والعفيف وبار والديه ، وفيما أورده فيه زيادة ألفاظ على ما في الصحيح . ومن قال إنهم طائفتان قال : أخبر الله عن أصحاب الكهف ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء ، ومن قال بأنهم طائفة واحدة اختلفوا في شرح الرقيم ، فعن إن ثلاثة نفر أصابتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف : إنه لا يدري ما الرقيم أكتاب أم بنيان ؟ وعنه أنه كتاب كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين ابن عباس المسيح عليه السلام . وقيل : من دين قبل عيسى ، وعن ابن عباس ووهب أنه اسم قريتهم . وقيل : لوح من ذهب تحت الجدار أقامه الخضر عليه السلام . وقيل : كتب فيه أسماءهم وقصتهم وسبب خروجهم . وقيل : لوح من رصاص كتب فيه شأن الفتية ووضع في تابوت من نحاس في فم الكهف . وقيل : صخرة كتب فيها أسماؤهم وجعلت في سور المدينة . وقيل : اسم كلبهم وتقدم بيت أمية قاله أنس والشعبي ، وعن وابن جبير الحسن : الجبل الذي به الكهف وعن عكرمة اسم الدواة بالرومية . وقيل : اسم للوادي الذي فيه الكهف . وقيل : رقم الناس حديثهم نقرا في الجبل .
و ( عجبا ) نصب على أنه صفة لمحذوف دل عليه ما قبله ، وتقديره آية عجبا ، وصفت بالمصدر أو على تقدير ذات عجب ، وأما أسماء فتية أهل الكهف فأعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط ، والسند في معرفتها ضعيف ، والرواة مختلفون في قصصهم وكيف كان اجتماعهم وخروجهم ، ولم يأت في الحديث الصحيح كيفية ذلك ولا في القرآن إلا ما قص تعالى علينا من قصصهم ، ومن أراد تطلب ذلك في كتب التفسير .
وروي أن اسم الملك الكافر الذي خرجوا في أيامه عن ملته اسمه دقيانوس . وروي أنهم كانوا في [ ص: 102 ] الروم . وقيل : في الشام وأن بالشام كهفا فيه موتى ، ويزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة . وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك ، وقد مضت القرون السالفة ، ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف . قال ابن عطية : دخلت إليهم فرأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه ، وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى حضرة غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها ، وإنما استسهلت ذكر هذا مع بعده ; لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله عز وجل . انتهى . وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عدتهم إذا عدوهم ، وأن معهم كلبا ويرحل الناس إلى لوشة لزيارتهم ، وأما ما ذكرت من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى ، وشاهدت فيها حجارة كبارا ، ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ، ولأن الأخبار بما هو في أقصى مكان من أرض الحجاز أغرب وأبعد أن يعرفه أحد إلا بوحي من الله تعالى .
والعامل في ( إذ ) . قيل : اذكر مضمرة . وقيل ( عجبا ) ومعنى ( أوى ) جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ، ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وفسرها المفسرون بالرزق . وقال : هي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء . و ( الفتية ) جمع فتى جمع تكسير جمع قلة ، وكذلك كانوا قليلين . وعند الزمخشري ابن السراج أنه اسم جمع لا جمع تكسير . ولفظ ( الفتية ) يشعر بأنهم كانوا شبابا وكذا روي أنهم كانوا شبابا من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم ، اتبعوا دين عيسى عليه السلام . وقيل : كانوا قبل عيسى وأصحابنا الأندلسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم في نثرهم ونظمهم ومخاطبة عامتهم ، فيقولون : غزونا الروم ، جاءنا الروم . وقل من ينطق بلفظ النصارى ، ولما دعوا بإيتاء الرحمة وهي تتضمن الرزق وغيره ، دعوا الله بأن يهيئ لهم من أمرهم الذي صاروا إليه من مفارقة دين أهليهم وتوحيد الله رشدا وهي الاهتداء والديمومة عليه .
وقال : واجعل أمرنا رشدا كله كقولك : رأيت منك أسدا . وقرأ الزمخشري أبو جعفر و شيبة : وهي ويهيي بياءين من غير همز ، يعني أنه أبدل الهمزة الساكنة ياء . وفي كتاب والزهري ابن خالويه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم : وهي لنا ويهي لكم لا يهمز . انتهى . فاحتمل أن يكون أبدل الهمزة ياء ، واحتمل أن يكون حذفها ، فالأول إبدال قياسي ، والثاني مختلف فيه ينقاس حذف الحرف المبدل من الهمزة في الأمر أو المضارع إذا كان مجزوما . وقرأ أبو رجاء : رشد بضم الراء وإسكان الشين . وقرأ الجمهور ( رشدا ) بفتحهما . قال ابن عطية : وهي أرجح لشبهها بفواصل الآيات قبل وبعد ، وهذا الدعاء منهم كان في أمر دنياهم وألفاظه تقتضي ذلك ، وقد كانوا على ثقة من رشد الآخرة ورحمتهما ، وينبغي لكل مؤمن أن يجعل دعاءه في أمر دنياه هذه الآية فإنها كافية ، ويحتمل ذكر الرحمة أن يراد بها أمر الآخرة . انتهى .
( فضربنا على آذانهم ) استعارة بديعة للإنامة المستثقلة التي لا يكاد يسمع معها ، وعبر بالضرب ليدل على قوة المباشرة واللصوق واللزوم ومنه ( ضربت عليهم الذلة ) وضرب الجزية وضرب البعث . وقال : الفرزدق
ضربت عليك العنكبوت بنسجها وقضى عليك به الكتاب المنزل
[ ص: 103 ] وقال الأسود بن يعفر :
ومن الحوادث لا أبا لك إنني ضربت علي الأرض بالأسداد
وقال آخر :
إن المروءة والسماحة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
استعير للزوم هذه الأوصاف لهذا الممدوح ، وذكر الجارحة التي هي الآذان إذ هي يكون منها السمع ; لأنه لا يستحكم نوم إلا مع تعطل السمع . وفي الحديث : ( ) أي : استثقل نومه جدا حتى لا يقوم بالليل . ومفعول ضربنا محذوف أي : حجابا من أن يسمع كما يقال بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة . وانتصب ( سنين ) على الظرف والعامل فيه ( فضربنا ) و ( عددا ) مصدر وصف به أو منتصب بفعل مضمر أي : بعد ( عددا ) وبمعنى اسم المفعول كالقبض والنفض ، ووصف به ( سنين ) أي سنين معدودة . والظاهر في قوله : ( عددا ) الدلالة على الكثرة ; لأنه لا يحتاج أن يعد إلا ما كثر لا ما قل . ذلك رجل بال الشيطان في أذنه
وقال : ويحتمل أن يريد القلة ; لأن الكثير قليل عنده كقوله : ( الزمخشري لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ) . انتهى وهذا تحريف في التشبيه ; لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ، فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب ، كما قال الشاعر :
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
( ثم بعثناهم ) أي : أيقظناهم من نومهم ، والبعث التحريك عن سكون إما في الشخص ، وإما عن الأمر المبعوث فيه ، وإن كان المبعوث فيه متحركا و ( لنعلم ) أي : لنظهر لهم ما علمناه من أمرهم ، وتقدم الكلام في نظير هذا في قوله : ( لنعلم من يتبع الرسول ) . وفي التحرير وقرأ الجمهور : ( لنعلم ) بالنون ، وقرأ بالياء ، وفي كتاب الزهري ابن خالويه ليعلم ( أي الحزبين ) حكاه الأخفش . وفي الكشاف وقرئ ليعلم وهو معلق عنه ; لأن ارتفاعه بالابتداء لا بإسناد يعلم إليه ، وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أن مفعول يعلم . انتهى . فأما قراءة لنعلم فيظهر أن ذلك التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، فيكون معناها ومعنى ( لنعلم ) بالنون سواء ، وأما ليعلم فيظهر أن المفعول الأول محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير ليعلم الله الناس ( أي الحزبين ) . والجملة من الابتداء والخبر في موضع مفعولي يعلم الثاني والثالث ، وليعلم معلق . وأما ما في الكشاف فلا يجوز ما ذكر على مذهب البصريين ; لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لا يسمى فاعله وهو قائم مقام الفاعل ، فكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل ، فكذلك لا يقوم مقام ما ناب عنه . وللكوفيين مذهبان :
أحدهما : أنه يجوز الإسناد إلى الجملة اللفظية مطلقا . والثاني : أنه لا يجوز إلا إن كان مما يصح تعليقه .
والظاهر أن الحزبين هما منهم لقوله تعالى : ( وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم ) الآية . وكأن الذين قالوا ربكم أعلم بما لبثتم علموا أن لبثهم تطاول ، ويدل على ذلك أنه تعالى بدأ بقصتهم ولا مختصرة من قوله : ( أم حسبت ) إلى قوله : ( أمدا ) ثم قصها تعالى مطولة مسهبة من قوله ( نحن نقص - إلى قوله - قل الله أعلم بما لبثوا ) .
وقال ابن عطية : والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم ( الفتية ) أي : ظنوا لبثهم قليلا ، والحزب الثاني هم أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية ، وهذا قول الجمهور من المفسرين . انتهى . وقالت فرقة : هما حزبان كافران اختلفا في مدة أهل الكهف . قال من اليهود والنصارى الذين علموا السدي قريشا السؤال عن أهل الكهف ، وعن الخضر وعن الروح وكانوا قد اختلفوا في مدة إقامة أهل الكهف في الكهف . وقال مجاهد : قوم أهل الكهف كان منهم مؤمنون وكافرون [ ص: 104 ] واختلفوا في مدة إقامتهم . وقيل : حزبان من المؤمنين في زمن أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم قاله الفراء . وقال : الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب . وقال ابن عباس ابن بحر : الحزبان الله والخلق كقوله ( أأنتم أعلم أم الله ) وهذه كلها أقوال مضطربة . وقال ابن قتادة : لم يكن للفريقين علم بلبثهم لا لمؤمن ولا لكافر بدليل قوله : ( الله أعلم بما لبثوا ) . وقال مقاتل : كما بعثوا زال الشك وعرفت حقيقة اللبث .
و ( أحصى ) جوز الحوفي و أبو البقاء أن يكون فعلا ماضيا ، وما مصدرية و ( أمدا ) مفعول به ، وأن يكون أفعل تفضيل و ( أمدا ) تمييز . واختار الزجاج والتبريزي أن يكون أفعل للتفضيل واختار الفارسي والزمخشري و ابن عطية أن تكون فعلا ماضيا ، ورجحوا هذا بأن ( أحصى ) إذا كان للمبالغة كان بناء من غير الثلاثي ، وعندهم أن ما أعطاه وما أولاه للمعروف وأعدى من الجرب شاذ لا يقاس . ويقول أبو إسحاق : إنه قد كثر من الرباعي فيجوز ، وخلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي : ما أعطاه للمال ، وآتاه للخير ، وهي أسود من القار ، وماؤه أبيض من اللبن . و ( فهو لما سواها أضيع ) . قال : وهذه كلها أفعل من الرباعي . انتهى . وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي . وفي بناء أفعل للتعجب وللتفضيل ثلاثة مذاهب يبنى منه مطلقا وهو ظاهر كلام ، وقد جاءت منه ألفاظ ولا يبنى منه مطلقا وما ورد حمل على الشذود ، والتفصيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يجوز ، أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن تقول : ما أشكل هذه المسألة ، وما أظلم هذا الليل ، وهذا اختيار سيبويه ابن عصفور من أصحابنا . ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو ، وإذا قلنا بأن ( أحصى ) اسم للتفضيل جاز أن يكون ( أي الحزبين ) موصولا مبنيا على مذهب لوجود شرط جواز البناء فيه ، وهو كون ( أي ) مضافة حذف صدر صلتها ، والتقدير ليعلم الفريق الذي هو ( سيبويه لما لبثوا أمدا ) من الذين لم يحصوا ، وإذا كان فعلا ماضيا امتنع ذلك ; لأنه إذ ذاك لم يحذف صدر صلتها لوقوع الفعل صلة بنفسه على تقدير جعل ( أي ) موصولة فلا يجوز بناؤها ; لأنه فات تمام شرطها ، وهو أن يكون حذف صدر صلتها . أحصى ) (
وقال : فإن قلت : فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل ؟ قلت : ليس [ ص: 105 ] بالوجه السديد ، وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ، ونحو أعدى من الجرب ، وأفلس من ابن المذلق شاذ ، والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به ، ولأن ( أمدا ) لا يخلو إما أن ينصب بأفعل ، فأفعل لا يعمل ، وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى ، فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه ( أحصى ) كما أضمر في قوله :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
على يضرب القوانس فقد أبعدت المتناول وهو قريب حيث أبيت أن يكون ( أحصى ) فعلا ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره . انتهى . أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي علي ، وقد ذكرنا أن ظاهر مذهب جواز بنائه من أفعل مطلقا ، وأنه مذهب سيبويه أبي إسحاق وأن التفصيل اختيار ابن عصفور وقول غيره . والهمزة في ( أحصى ) ليست للنقل . وأما قوله فأفعل لا يعمل ليس بصحيح فإنه يعمل في التمييز ، و ( أمدا ) تمييز وهكذا أعربه من زعم أن ( أحصى ) أفعل للتفضيل ، كما تقول : زيدا أقطع الناس سيفا ، وزيد أقطع للهام سيفا ، ولم يعربه مفعولا به . وأما قوله : وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي : لا يكون سديدا فقد ذهب إلى نصب ( أمدا ) بلبثوا . قال الطبري ابن عطية : وهذا غير متجه . انتهى . وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة من حيث إن للمدة غاية في أمد المدة على الحقيقة ، وما بمعنى الذي و ( أمدا ) منتصب على إسقاط الحرف ، وتقديره لما ( لبثوا ) من أمد أي : مدة ، ويصير من أمد تفسيرا لما أنهم في لفظ ( ما لبثوا ) كقوله ( ما ننسخ من آية ، ما يفتح الله للناس من رحمة ) ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل . وأما قوله : فإن زعمت إلى آخره فيقول : لا يحتاج إلى هذا الزعم ; لأنه لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به ، فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به ، وإنما تأويله بضرب القوانس قول البصريين ، ولذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله : ( أعلم من يضل ) من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ، ولو كثر وجود مثل :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحا ; لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمين ، ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف القوانسا على ضرب غيرنا ، ولما ذكر قوله ليعلم مشعرا باختلاف في أمرهم عقب بأنه تعالى هو الذي يقص شيئا فشيئا على رسوله - صلى الله عليه وسلم - خبرهم ( بالحق ) أي : على وجه الصدق ، وجاء لفظ ( نحن نقص ) موازيا لقوله : لنعلم .
ثم قال ( آمنوا بربهم ) ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ، ولم يأت التركيب ( آمنوا ) بناء للأشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون . ثم قال : ( وزدناهم هدى ) ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة ( نا ) من العظمة والجلال ، وزيادته تعالى لهم ( هدى ) هو تيسيرهم للعمل الصالح والانقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا ، وهذه زيادة في الإيمان الذي حصل لهم . وفي التحرير ( زدناهم ) ثمرات ( هدى ) أو يقينا قولان ، وما حصلت به الزيادة امتثال المأمور وترك المنهي ، أو إنطاق الكلب لهم بأنه هو على ما هم عليه من الإيمان ، أو إنزال ملك عليهم بالتبشير والتثبيت وإخبارهم بظهور نبي من العرب يكون الدين به كله لله فآمنوا به قبل بعثه أقوال ملخصة من التحرير .
( وربطنا على قلوبهم ) ثبتناها وقويناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس به ولا ماء ولا طعام ، ولما كان الفزع وخوف النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن تشبه الربط ، ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والحرب . وقال تعالى : ( إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ) والعامل في ( أن ربطنا ) أي : ربطنا حين ( قاموا ) ويحتمل القيام أن يكون مقامهم بين يدي الملك الكافر دقيانوس ، فإنه مقام محتاج إلى الربط على القلب [ ص: 106 ] حيث صلبوا عليه وخلعوا دينه ورفضوا في ذات الله هيبته ، ويحتمل أن يكون عبارة عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله ومنابذة الناس كما يقال : قام فلان إلى كذا إذا اعتزم عليه بغاية الجد .
وقال الكرماني : ( قاموا ) على أرجلهم . وقيل : ( قاموا ) يدعون الناس سرا . وقال عطاء : ( قاموا ) عند قيامهم من النوم قالوا ، وقيل : ( قاموا ) على إيمانهم . وقال صاحب الغنيان : ( إذ قاموا ) بين يدي الملك فتحركت هرة . وقيل : فأرة ففزع دقيانوس فنظر بعضهم إلى بعض فلم يتمالكوا أن قالوا : ( ربنا رب السماوات والأرض ) وكان قومهم عباد أصنام ، وما أحسن ما وحدوا الله بأن ربهم هو موجد السماوات والأرض المتصرف فيها على ما يشاء ، ثم أكدوا هذا التوحيد بالبراءة من إله غيره بلفظ النفي المستغرق تأبيد الزمان على قول . واللام في ( لقد ) لام توكيد و ( إذا ) حرف جواب وجزاء ، أي لقد قلنا لن ندعو من دونه إلها قولا ( شططا ) أي : ذا شطط وهو التعدي والجور ، فشططا نعت لمصدر محذوف إما على الحذف كما قدرناه ، وإما على الوصف به على جهة المبالغة . وقيل : مفعول به بقلنا ، وقال قتادة : ( شططا ) كذبا . وقال أبو زيد : خطأ .