ولما وحدوا الله تعالى ، ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم ، وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله ، ثم عظموا جرم من افترى على الله كذبا ، وهذه المقالة يحتمل أن قالوها في مقامهم بين يدي الملك تقبيحا لما هو وقومهم عليه وذلك أبلغ في التبري من عبادة الأصنام ، وأفت في عضد الملك إذا اجترءوا عليه بذم ما هو عليه ، ويحتمل أن قالوا ذلك عند قيامهم للأمر الذي عزموا عليه و ( هؤلاء ) مبتدأ .
و ( قومنا ) قال الحوفي : خبر و ( اتخذوا ) في موضع الحال . وقال : وتبعه الزمخشري أبو البقاء : ( قومنا ) عطف بيان و ( اتخذوا ) في موضع الخبر . والضمير في ( من دونه ) عائد على الله ، ولولا تحضيض صحبه الإنكار ؛ إذ يستحيل وقوع سلطان بين على ذلك فلا يمكن فيه التحضيض الصرف ، فحضوهم على ذلك على سبيل التعجيز لهم ، ومعنى ( عليهم ) على اتخاذهم آلهة و ( اتخذوا ) هنا يحتمل أن يكون بمعنى عملوا ; لأنها أصنام هم نحتوها ، وأن تكون بمعنى صيروا ، وفي ما ذكروه دليل على أن الدين لا يؤخذ إلا بالحجة والدعوى إذا لم يكن عليها دليل فاسدة وهي ظلم وافتراء على الله وكذب بنسبة شركاء الله .
( وإذ اعتزلتموهم ) خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي ، وما معطوف على المفعول في ( اعتزلتموهم ) أي : واعتزلتم معبودهم و ( إلا الله ) استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله : ( وما يعبدون إلا الله ) .
وذكر أبو نعيم الحافظ عن أنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم يعتزلوا عبادة الله . وقال هذا أيضا عطاء الخراساني الفراء ، ومنقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجه في معبوداتهم . وفي مصحف عبد الله ( وما يعبدون ) من دوننا . انتهى وما في مصحف عبد الله فيما ذكر هارون إنما أريد به تفسير المعنى . وإن هؤلاء الفتية اعتزلوا قومهم ( وما يعبدون ) من دون الله وليس ذلك قرآنا لمخالفتها لسواد المصحف ؛ ولأن المستفيض عن عبد الله بل هو متواتر ما ثبت في السواد وهو ( ما يعبدون إلا الله ) . وقيل : ( وما يعبدون إلا الله ) كلام معترض إخبار من الله تعالى عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله تعالى ، فعلى هذا ( ما ) فيه و ( إلا ) استثناء مفرغ له العامل .
( فأووا إلى الكهف ) أي : اجعلوه مأوى لكم تقيمون فيه وتأوون إليه . وقوله ( ينشر ) فيه ما كانوا عليه من التوكل حيث أووا إلى كهف ، ورتبوا على مأواهم [ ص: 107 ] إليه نشر رحمة الله عليهم وتهيئة رفقه تعالى بهم ; لأن من أخرجه من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان لا يضيعه ، والمعنى أنه تعالى سيبسط علينا رحمته ويهيئ لنا ما نرتفق به في أمر عيشنا .
قال : ( ابن عباس ويهيئ لكم ) يسهل عليكم ما تخافون من الملك وظلمه ، ويأتيكم باليسر والرفق واللطف . وقال : المعنى ( ابن الأنباري ويهيئ لكم ) بدلا من أمركم الصعب ( مرفقا ) . قال الشاعر :
فليت لنا من ماء زمزم شربة مبردة باتت على طهيان
أي : بدلا من ماء زمزم . وقال : إما أن يقولوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه ونصوع يقينهم ، وإما أن يخبرهم به نبي في عصرهم ، وإما أن يكون بعضهم نبيا . وقرأ الزمخشري أبو جعفر والأعرج وشيبة وحميد وابن سعدان ونافع وابن عامر وأبو بكر في رواية الأعشى والبرجي والجعفي عنه ، وأبو عمرو في رواية هارون بفتح الميم وكسر الفاء ، وقرأ ابن أبي إسحاق وطلحة وباقي السبعة بكسر الميم وفتح الفاء رفقا ; لأن جميعا في الأمر الذي يرتفق به وفي الجارحة حكاه والأعمش الزجاج وثعلب . ونقل مكي عن الفراء أنه قال : لا أعرف في الأمر وفي اليد وفي كل شيء إلا كسر الميم ، وأنكر أن يكون المرفق من الجارحة إلا بفتح الميم وكسر الفاء ، وخالفه الكسائي أبو حاتم ، وقال : المرفق بفتح الميم الموضع كالمسجد . وقال أبو زيد : هو مصدر كالرفق جاء على مفعل . وقيل : هما لغتان فيما يرتفق به وإما من اليد فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير ، وعن الفراء أهل الحجاز يقولون ( مرفقا ) بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به ويكسرون مرفق الإنسان ، والعرب قد يكسرون الميم منهما جميعا . انتهى . وأجاز معاذ فتح الميم والفاء .