( قال فما بال القرون الأولى ) لما أجابه موسى بجواب مسكت ، ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل [ ص: 248 ] إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون ؟ وذلك على سبيل الروغان عن الاعتراف بما قال موسى وما أجابه به ، والحيدة والمغالطة . قيل : سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ، ولم يكن عنده - عليه السلام - علم بالتوراة ، إنما أنزلت عليه بعد هلاك فرعون ، فقال ( علمها عند ربي ) . وقيل : مراده من السؤال عنها : لم عبدت الأصنام ولم تعبد الله إن كان الحق ما وصفت ؟ وقيل : مراده ما لها لا تبعث ولا تحاسب ولا تجازي فقال ( علمها عند ربي ) فأجابه بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به لا يعلمه إلا هو . وقال النقاش : إنما سأل لما سمع وعظ مؤمن آل فرعون ( يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب ) الآية فرد علم ذلك إلى الله ؛ لأنه لم يكن نزلت عليه التوراة . وقيل لما قال ( إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ) قال فرعون ( فما بال القرون الأولى ) فإنها كذبت ثم إنهم ما عذبوا . وقيل : لما قرر أمر المبدأ والدلالة القاطعة على إثبات الصانع قال فرعون : إن كان ما ذكرت في غاية الظهور فما بال القرون الأولى نسوه وتركوه ، فلو كانت الدلالة واضحة وجب على القرون الماضية أن لا يكونوا غافلين عنها . فعارض الحجة النقلية ، ويجوز أن يكون فرعون قد نازعه في إحاطة الله بكل شيء وتبينه لكل معلوم فتعنت وقال : ما تقول في سوالف القرون وتمادي كثرتهم وتباعد أطراف عددهم ، كيف أحاط بهم وبأجزائهم وجواهرهم ، فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه وهو مثبت عنده ( في كتاب ) ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل ، أي : ( لا يضل ) كما تضل أنت ( ولا ينسى ) كما تنسى يا مدعي الربوبية بالجهل والوقاحة ، قاله . الزمخشري
والظاهر عود الضمير في ( علمها ) إلى ( القرون الأولى ) ، أي : مكتوب عند ربي في اللوح المحفوظ لا يجوز عليه أن يخطئ شيئا أو ينساه ، يقال : ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه ، وضللته لغتان فلم يهتد إليه ، كقولك : ضللت الطريق والمنزل ، ولا يقال : أضللته ، إلا إذا ضاع منك كالدابة إذا انفلتت وشبهها قاله الفراء . وقال : ضللته أضله إذا جعلته في مكان ولم تدر أين هو ، وأضللته ، والكتاب هنا اللوح المحفوظ . وقيل ( الزجاج في كتاب ) فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر . وقيل : الضمير في ( علمها ) عائد على القيامة ؛ لأنه سأله عن بعث الأمم . وقال ( السدي لا يضل ) لا يغفل . وقال ابن عيسى ( لا يضل ) لا يذهب عليه ، تقول العرب : ضل منزله بغير ألف . وفي الحيوان أضل بعيره بالألف . وقيل : التقدير ( لا يضل ربي ) الكتاب ( ولا ينسى ) ما فيه قاله مقاتل . وقال القفال ( لا يضل ) عن معرفة الأشياء فيحيط بكل المعلومات ( ولا ينسى ) إشارة إلى بقاء ذلك العلم أبد الآباد على حاله لا يتغير . وقال الحسن : لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه .
وقال مجاهد : معنى الجملتين واحد وهو إشارة إلى أنه لا يعرض في علمه ما يغيره . وقال : لا يخطئ في التدبير فيعتقد في غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه ، وقال ابن جرير أبو عبد الله الرازي : علم الله صفة قائمة به ولا تكون حاصلة في الكتاب ؛ لأن ذلك لا يعقل ، فالمعنى أن بقاء تلك المعلومات في علمه كبقاء المكتوبات في الكتاب ، فالغرض التوكيد بأن أسرارها معلومة له لا يزول شيء منها ، ويتأكد هذا بقوله ( لا يضل ربي ولا ينسى ) أو المعنى أنه أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده يظهر للملائكة زيادة لهم في الاستدلال على أنه عالم بكل المعلومات منزه عن السهو والغفلة . انتهى . وفيه بعض تلخيص .
وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وحماد بن سلمة وابن محيصن لا يضل بضم الياء ، أي : لا يضل الله ذلك الكتاب فيضيع ولا ينسى ما أثبته فيه . وقرأ وعيسى الثقفي السلمي ( لا يضل ربي ولا ينسى ) مبنيتين للمفعول ، والظاهر أن الجملتين استئناف وإخبار عنه تعالى بانتفاء هاتين الصفتين عنه . وقيل : هما في موضع وصف لقوله ( في كتاب ) والضمير [ ص: 249 ] العائد على الموصوف محذوف ، أي : لا يضله ربي ولا ينساه . والظاهر أن الضمير في ( ولا ينسى ) عائد على الله . وقيل : يحتمل أن يعود على ( كتاب ) ، أي : لا يدع شيئا فالنسيان استعارة كما قال ( إلا أحصاها ) فأسند الإحصاء إليه من حيث الحصر فيه ، وعن لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه . ابن عباس