النور في كلام العرب الضوء المدرك بالبصر ، فإسناده إلى [ ص: 455 ] الله تعالى مجاز ، كما تقول زيد كرم وجود ، وإسناده على اعتبارين : إما على أنه بمعنى اسم الفاعل أي منور السماوات والأرض ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ، علي بن أبي طالب وأبي جعفر ، وعبد العزيز المكي ، ، وزيد بن علي وثابت بن أبي حفصة ، والقورصي ، ، ومسلمة بن عبد الملك ، و وأبي عبد الرحمن السلمي عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة : ( نور ) فعلا ماضيا ، و ( الأرض ) بالنصب . وإما على حذف ; أي ذو نور ، ويؤيده قوله : ( مثل نوره ) ، ويحتمل أن يجعل نورا على سبيل المدح ، كما قالوا : فلان شمس البلاد ونور القبائل وقمرها ، وهذا مستفيض في كلام العرب وأشعارها . قال الشاعر :
كأنك شمس والملوك كواكب
وقال :
قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها بدرها وجمالها
ويروى : نورها ، وأضاف النور إلى ( السماوات والأرض ) ; للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى يضيء له السماوات والأرض ، أو يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به . وقال : ( ابن عباس نور السماوات ) أي هادي أهل السماوات . وقال مجاهد : مدبر أمور السماوات . وقال الحسن : منور السماوات . وقال أبي : الله به نور السماوات أو منه نور السماوات ، أي ضياؤها . وقال أبو العالية : مزين السماوات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء . وقيل : المنزه من كل عيب امرأة نوار بريئة من الريبة والفحشاء . وقال الكرماني : هو الذي يرى ويرى به مجاز وصف الله به ; لأنه يرى ويرى بسببه مخلوقاته ; لأنه خلقها وأوجدها .
والظاهر أن الضمير في ( مثل نوره ) عائد على الله تعالى . واختلفوا في هذا القول : ما المراد بالنور المضاف إليه تعالى ؟ فقيل : الآيات البينات في قوله : ( ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ) ، وقيل : الإيمان المقذوف في قلوب المؤمنين . وقيل : النور هنا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : النور هنا المؤمن . وقال كعب : الضمير في ( نوره ) عائد على وابن جبير محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أي مثل نور محمد . وقال أبي : هو عائد على المؤمنين ، وفي قراءته مثل نور المؤمن . وروي أيضا فيها مثل نور من آمن به . وقال الحسن : يعود على القرآن والإيمان ، وهذه الأقوال الثلاثة عاد فيها الضمير على غير مذكور ، ونقلت المعنى المقصود بالآية بخلاف عوده على الله تعالى ، ولذلك قال مكي يوقف على : ( والأرض ) في تلك الأقوال الثلاثة . واختلفوا في هذا التشبيه : أهو تشبيه جملة بجملة لا يقصد فيها إلى تشبيه جزء بجزء ومقابلة شيء بشيء ، أو مما قصد به ذلك أي : مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة ، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس ، أي مثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر . وقيل : هو من التشبيه المفصل المقابل جزءا بجزء ، وقرروه على تلك الأقوال الثلاثة أي : ( مثل نوره ) في محمد ، أو في المؤمن ، أو في القرآن والإيمان ، ( كمشكاة ) فالمشكاة هو الرسول أو صدره ، و ( المصباح ) هو النبوة وما يتصل بها من علمه وهداه ، و ( الزجاجة ) قلبه . والشجرة المباركة الوحي والملائكة رسل الله إليه ، وشبه الفصل به بالزيت ، وهو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحي ، وعلى قول المؤمن فالمشكاة صدره ، و ( المصباح ) الإيمان والعلم . و ( الزجاجة ) قلبه ، والشجرة القرآن ، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها . قال أبي : فهو على أحسن الحال يمشي في الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات ، وعلى قول الإيمان والقرآن أي مثل الإيمان والقرآن في صدر المؤمن في قلبه ( كمشكاة ) ، وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين ; لأن المشكاة ليست تقابل الإيمان .
وقال : أي صفة ( نوره ) لعجيبة الشأن في الإضاءة [ ص: 456 ] ( الزمخشري كمشكاة ) أي كصفة مشكاة ، انتهى . ويظهر لي أن قوله : ( كمشكاة ) هو على حذف مضاف أي : ( مثل نوره ) مثل نور مشكاة ، وتقدم في المفردات أن المشكاة هي الكوة غير النافذة ، وهو قول ابن جبير وسعيد بن عياض والجمهور . وقال أبو موسى : المشكاة الحديدة والرصاصة التي تكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة . وقال مجاهد : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، وقال أيضا الحدائد التي تعلق فيها القناديل .
( فيها مصباح ) أي سراج ضخم ، والظاهر أن الزجاجة ظرف للمصباح ; لقوله ( المصباح في زجاجة ) ، وقدره في زجاج شامي ، وكان عنده أصفى الزجاج هو الشامي ، ولم يقيد في الآية . وقرأ الزمخشري أبو رجاء ونصر بن عاصم : ( في زجاجة الزجاجة ) بكسر الزاي فيهما ، وابن أبي عبلة ونصر بن عاصم في رواية ابن مجاهد بفتحها . ( كأنها ) أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها ، وهو أبلغ في الإنارة ، ولما احتوت عليه من نور المصباح .
( كوكب دري ) ، قال الضحاك : هو الزهرة شبه الزجاجة في زهرتها بأحد الدراري من الكواكب المشاهير ، وهي المشتري ، والزهرة ، والمريخ ، وسهيل ، ونحو ذلك . وقرأ الجمهور من السبعة نافع وابن عامر وحفص وابن كثير : ( دري ) بضم الدال وتشديد الراء والياء ، والظاهر نسبة الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه ، ويحتمل أن يكون أصله الهمز فأبدل وأدغم . وقرأ قتادة وزيد بن علي والضحاك كذلك إلا أنهما فتحا الدال . وروي ذلك عن نصر بن عاصم وأبي رجاء . وقرأ وابن المسيب كذلك إلا أنه كسر الدال . وقرأ الزهري حمزة كذلك إلا أنه همز من الدرء بمعنى الدفع ، أي يدفع بعضها بعضا ، أو يدفع ضوءها خفاءها ووزنها فعيل . قيل : ولا يوجد فعيل إلا قولهم مريق للعصفر ودريء في هذه القراءة . قيل : وسرية إذا قيل إنها مشتقة من السرور ، وأبدل من أحد المضعفات الياء فأدغمت فيها ياء فعيل ، وسمع أيضا مريخ للذي في داخل القرن اليابس بضم الميم وكسرها . وقيل : منه علية . وقيل : ( دري ) ووزنه في الأصل فعول كسبوح ، فاستثقل الضم فرد إلى الكسر ، وكذا قيل في سرته ودرته . وقرأ أبو عمرو كذلك إلا أنه كسر الدال ، وهو بناء كثير في الأسماء نحو سكين ، وفي الأوصاف سكير . وقرأ والكسائي قتادة أيضا وأبان بن عثمان وابن المسيب وأبو رجاء وعمرو بن فائد والأعمش ونصر بن عاصم كذلك ، إلا أنه بفتح الدال . قال : وهذا عزيز لم يحفظ منه إلا السكينة بفتح السين وشد الكاف ، انتهى . وفي الأبنية حكى ابن جني الأخفش كوكب دريء ، من درأته ودرية وعليك بالسكينة والوقار ، عن أبي زيد . وحكى الفراء بكسر السين .
وقرأ الأخوان ، وأبو بكر ، والحسن ، ، و وزيد بن علي قتادة ، وابن وثاب ، وطلحة ، و عيسى ، : ( توقد ) بضم التاء أي : ( والأعمش الزجاجة ) مضارع أوقدت مبنيا للمفعول ، ونافع وابن عامر وحفص كذلك ، إلا أنه بالياء أي : ( المصباح ) ، وابن كثير وأبو عمرو ( توقد ) بفتح الأربعة ، فعلا ماضيا أي : ( المصباح ) . والحسن ، والسلمي ، و قتادة ، وابن محيصن ، وسلام ، ومجاهد ، وابن أبي إسحاق ، والمفضل ، عن عاصم كذلك ، إلا أنه بضم الدال مضارع ( توقد ) ، وأصله تتوقد أي ( الزجاجة ) . وقرأ عبد الله وقد بغير تاء ، وشدد القاف جعله فعلا ماضيا أي : وقد المصباح . وقرأ السلمي وقتادة وسلام أيضا كذلك ، إلا أنه بالياء من تحت . وجاء كذلك عن الحسن وابن محيصن ، وأصله يتوقد أي : ( المصباح ) إلا أن حذف الياء في يتوقد مقيس ; لدلالة ما أبقي على ما حذف . وفي ( يوقد ) شاذ جدا ; لأن الياء الباقية لا تدل على التاء المحذوفة ، وله وجه من القياس وهو حمله على يعد إذ حمل يعد وتعد وأعد في حذف الواو كذلك ، هذا لما حذفوا من تتوقد بالتاءين حذفوا التاء مع الياء ، وإن لم يكن اجتماع التاء والياء مستثقلا .
( من شجرة ) أي من زيت شجرة ، وهي شجرة الزيتون . ( مباركة ) كثيرة المنافع أو لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين . وقيل : بارك فيها [ ص: 457 ] للعالمين . وقيل : بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم - عليه السلام - ، والزيتون من أعظم الشجر ثمرا ونماء واطراد أفنان ونضارة أفنان . وقال أبو طالب :
بورك الميت الغريب كما بورك نضر الرمان والزيتون
( لا شرقية ولا غربية ) . قال ابن زيد : هي من شجر الشام ، فهي ليست من شرق الأرض ولا من غربها ; لأن شجر الشام أفضل الشجر . وقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم : هي في منكشف من الأرض تصيبها الشمس طول النهار تستدير عليها ، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ، ولا للغرب فتسمى غربية ، وقال الحسن : هذا مثل وليست من شجر الدنيا ; إذ لو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية . وعن : أنها في درجة أحاطت بها فليست منكشفة لا من جهة الشرق ولا من جهة الغرب ، وهذا لا يصح عن ابن عباس ; لأنها إذا كانت بهذه الصفة فسد جناها . وقال ابن عباس ابن عطية : إنها في وسط الشجر لا تصيبها الشمس طالعة ولا غاربة ، بل تصيبها بالغداة والعشي . وقال عكرمة : هي من شجر الجنة . وقال : الشجرة مثل ، أي إنها ملة ابن عمر إبراهيم ليست بيهودية ولا نصرانية . وقيل : ملة الإسلام ليست بشديدة ولا لينة . وقيل : لا مضحى ولا مفيأة ، ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها ، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها .
و ( زيتونة ) بدل من ( شجرة ) ، وجوز بعضهم فيه أن يكون عطف بيان ، ولا يجوز على مذهب البصريين ; لأن عطف البيان عندهم لا يكون إلا في المعارف ، وأجاز الكوفيون وتبعهم الفارسي أنه يكون في النكرات . و ( لا شرقية ) ( ولا ) على ( غربية ) على قراءة الجمهور بالخفض صفة لزيتونة . وقرأ الضحاك بالرفع أي : لا هي شرقية ولا غربية ، والجملة في موضع الصفة .
( يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار ) مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار . والجملة من قوله : ( ولو لم تمسسه نار ) حالية معطوفة على حال محذوفة أي ( يكاد زيتها يضيء ) في كل حال ، ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له ، وتقدم لنا أن هذا العطف إنما يأتي مرتبا لما كان لا ينبغي أن يقع ; لامتناع الترتيب في العادة وللاستقصاء حتى يدخل ما لا يقدر دخوله فيما قبله ، نحو : " أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، ردوا السائل ولو بظلف محرق " . وقرأ الجمهور : ( تمسسه ) بالتاء ، وابن عباس والحسن بالياء من تحت ، وحسنه الفصل وأن تأنيث النار مجازي ، وهو مؤنث بغير علامة .
( نور على نور ) أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت ، فلم يبق مما يقوي النور ويزيده إشراقا شيء ; لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان المتسع ، فإنه ينشر النور ، والقنديل أعون شيء على زيادة النور ، وكذلك الزيت وصفاؤه ، وهنا تم المثال .
ثم قال : ( يهدي الله لنوره من يشاء ) أي لهداه والإيمان من يشاء هدايته ويصطفيه لها . ومن فسر النور في ( مثل نوره ) بالنبوة قدر يهدي الله إلى نبوته . وقيل : إلى الاستدلال بالآيات ، ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال للناس ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان ، ثم ذكر إحاطة علمه بالأشياء ، فهو يضع هداه عند من يشاء . ( في بيوت ) متعلق بيوقد ; قاله الرماني ، أو في موضع الصفة ; لقوله : ( كمشكاة ) أي كمشكاة في بيوت ; قاله الحوفي ، وتبعه قال : ( الزمخشري كمشكاة ) في بعض بيوت الله ، وهي المساجد . وقال : ( مثل نوره ) كما ترى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كيت وكيت ، انتهى . وقوله كأنه إلى آخره تفسير معنى لا تفسير إعراب أو في موضع الصفة لمصباح أي مصباح ( في بيوت ) ; قاله بعضهم ، أو في موضع الصفة لزجاجة ; قاله بعضهم ، وعلى هذه الأقوال الأربعة لا يوقف على قوله : ( عليم ) . وقيل : ( في بيوت ) مستأنف ، والعامل فيه ( يسبح ) حكاه أبو حاتم وجوزه . فقال : وقد ذكر تعلقه [ ص: 458 ] بـ ( الزمخشري كمشكاة ) ، قال : أو بما بعده وهو : ( يسبح ) أي : ( يسبح له ) رجال في بيوت ، وفيها تكرير كقولك زيد في الدار جالس فيها ، أو بمحذوف كقوله : ( في تسع آيات ) أي سبحوا في بيوت ، انتهى . وعلى هذه الأقوال الثلاثة يوقف على قوله : ( عليم ) ، والذي أختاره أن يتعلق ( في بيوت ) بقوله : ( يسبح ) وإن ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور ، وهم المؤمنون ، ثم ذكر أشرف عبادتهم القلبية ، وهو تنزيههم الله عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات ، ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وخوفهم ما يكون في البعث . ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله : ( والذين كفروا ) وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء في التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها ، فبدئ بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافر . والظاهر أن قوله : ( في بيوت ) أريد به مدلوله من الجمعية .
وقال الحسن : أريد به بيت المقدس ، وسمي بيوتا من حيث فيه مواضع يتحيز بعضها عن بعض ، ويؤثر أن عادة بني إسرائيل في وقيده في غاية التهمم ، والزيت مختوم على ظروفه ، وقد صنع صنعة وقدس حتى لا يجري الوقيد بغيره ، فكان أضوأ بيوت الأرض . والظاهر أن ( في بيوت ) مطلق ، فيصدق على المساجد والبيوت التي تقع فيها الصلاة والعلم . وقال مجاهد : بيوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - . وقال ابن عباس والحسن أيضا ومجاهد : هي المساجد التي من عادتها أن تنور بذلك النوع من المصابيح . وقيل : الكعبة وبيت المقدس ومسجد الرسول - عليه الصلاة والسلام - ومسجد قباء . وقيل : بيوت الأنبياء . ويقوي أنها المساجد قوله : ( يسبح له فيها بالغدو والآصال ) وإذنه تعالى وأمره بأن : ( ترفع ) أي يعظم قدرها ; قاله الحسن والضحاك . وقال ابن عباس ومجاهد : تبنى وتعلى من قوله : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ) . وقيل : ( ترفع ) تطهر من الأنجاس والمعاصي . وقيل : ( ترفع ) أي ترفع فيها الحوائج إلى الله . وقيل : ( ترفع ) الأصوات بذكر الله وتلاوة القرآن .
( ويذكر فيها اسمه ) ، ظاهره مطلق الذكر ، فيعم كل ذكر عموم البدل . وعن : توحيده وهو لا إله إلا الله . وعنه : يتلى فيها كتابه . وقيل : أسماؤه الحسنى . وقيل : يصلى فيها . وقرأ الجمهور ( يسبح ) بكسر الباء وبالياء من تحت ، ابن عباس وابن وثاب وأبو حيوة كذلك ، إلا أنه بالتاء من فوق ، وابن عامر وأبو بكر والبحتري عن حفص ، ومحبوب عن أبي عمرو ، والمنهال عن يعقوب والمفضل وأبان ، بفتحها ، وبالياء من تحت وأحد المجرورات في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، والأولى الذي يلي الفعل ; لأن طلب الفعل للمرفوع أقوى من طلبه للمنصوب الفضلة .
وقرأ أبو جعفر : تسبح بالتاء من فوق وفتح الباء . قال : ووجهها أن تسند إلى أوقات الغدو والآصال على زيادة الباء ، وتجعل الأوقات مسبحة والمراد ربها كصيد عليه يومان ، والمراد وحشهما ، انتهى . ويجوز أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير التسبيحة الدال عليه ( الزمخشري تسبح ) ، أي : تسبح له هي ، أي : التسبيحة ، كما قالوا : ( ليجزى قوما ) في قراءة من بناه للمفعول ، أي : ليجزى هو ، أي : الجزاء .
وقرأ أبو مجلز : والإيصال وتقدم نظيره ، وارتفع ( رجال ) على هاتين القراءتين على الفاعلية بإضمار فعل ، أي : ( يسبح ) أو يسبح له رجال . واختلف في اقتياس هذا ، فعلى اقتياسه نحو ضربت هند زيد ، أي : ضربها زيد ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أي : المسبح رجال . وتقدم الكلام في تفسير الغدو والآصال والمراد بهما .
ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله ، واحتمل قوله : ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع ) وجهين : أحدهما : أنهم لا تجارة لهم ولا بيع فيلهيهم عن ذكر الله ، كقوله :
على لاحب لا يهتدى بمناره أي : لا منار له فيهتدى به . والثاني : [ ص: 459 ] أنهم ذوو تجارة وبيع ، ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم ، والظاهر مغايرة التجارة والبيع ، ولذلك عطف ، فاحتمل أن تكون تجارة من إطلاق العام ويراد به الخاص ، فأراد بالتجارة الشراء ، ولذلك قابله بالبيع ، أو يراد تجارة الجلب ، ويقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه ، وبالبيع البيع بالأسواق ، ويحتمل أن يكون ( ولا بيع ) من ذكر خاص بعد عام ; لأن التجارة هي البيع والشراء طلبا للربح . ونبه على هذا الخاص ; لأنه في الإلهاء أدخل من قبل أن التاجر إذا اتجهت له بيعة رابحة ، وهي طلبته الكلية من صناعته ألهته ما لا يلهيه شيء يتوقع فيه الربح ; لأن هذا يقين وذاك مظنون .
قال : التاء في إقامة عوض من العين الساقطة للإعلال ، والأصل إقوام ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت ، ونحوه : وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا ، انتهى . وهذا الذي ذكر من أن التاء سقطت لأجل الإضافة هو مذهب الزمخشري الفراء ، ومذهب البصريين أن التاء من نحو هذا لا تسقط للإضافة ، وتقدم لنا الكلام على ( وإقام الصلاة ) في الأنبياء ، وصدر البيت الذي أنشد عجزه قوله :
إن الخليط أجدوا البين فانجردوا
، وقد تأول خالد بن كلثوم قوله عدا الأمر على أنه جمع عدوة ، والعدوة الناحية ، كأن الشاعر أراد نواحي الأمر وجوانبه .( يخافون يوما ) هو يوم القيامة ، والظاهر أن معنى ( تتقلب ) تضطرب من هول ذلك اليوم ، كما قال تعالى : ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) ، فتقلبها هو قلقها واضطرابها ، فتتقلب من طمع في النجاة إلى طمع ، ومن حذر هلاك إلى هلاك . وهذا المعنى تستعمله العرب في الحروب كقوله :
بل كان قلبك في جناحي طائر
ويبعد قول من قال ( تتقلب ) على جمر جهنم ; لأن ذلك ليس في يوم القيامة بل بعده . وقول من قال : إن تقلبها ظهور الحق لها ، أي : فتتقلب عن معتقدات الضلال إلى اعتقاد الحق على وجهه ، فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها ، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عميا ، والقول الأول أبلغ في التهويل . وقرأ ابن محيصن : تقلب بإدغام التاء في التاء .
واللام في ( ليجزيهم ) متعلقة بمحذوف ، أي : فعلوا ذلك ( ليجزيهم ) ، ويجوز أن تتعلق بيسبح ، وهو الظاهر . وقال : والمعنى يسبحون ويخافون ( ليجزيهم ) ، انتهى . والظاهر أن قوله : ( يخافون ) صفة لرجال ، كما أن ( الزمخشري لا تلهيهم ) كذلك . ( أحسن ) هو على حذف مضاف ، أي : ثواب أحسن ما عملوا ، أو ( أحسن ) جزاء ما عملوا . ( ويزيدهم من فضله ) على ما تقتضيه أعمالهم ، فأهل الجنة أبدا في مزيد . وقال : ( ليجزيهم ) ثوابهم مضاعفا ، ( ويزيدهم ) على الثواب تفضيلا ، وكذلك معنى قوله : ( الزمخشري الحسنى وزيادة ) المثوبة الحسنى ، وزيادة عليها من التفضل وعطاء الله - عز وجل - إما تفضل وإما ثواب وإما عوض .
( والله يرزق من يشاء ) ما يتفضل به ( بغير حساب ) ، فأما الثواب فله حسنات لكونه على حسب الاستحقاق ، انتهى . وفي قوله على حسب الاستحقاق دسيسة اعتزال .