( وما أضلنا إلا المجرمون ) أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة ، وهم ساداتهم ذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم : ( أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل ) . وقال : هم الأولون الذين اقتدوا بهم . وقيل : المجرمون : الشياطين ، وقيل : من دعاهم إلى عبادة الأصنام من الجن والإنس . وقال السدي : إبليس وابن آدم القاتل ، لأنه أول من سن القتل وأنواع المعاصي . وحين رأوا شفاعة الملائكة والأنبياء والعلماء نافعة في أهل الإيمان ، وشفاعة الصديق في صديقه خاصة ، قالوا على جهة التلهف والتأسف ( ابن جريج فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ) . وقال : شافعين من [ ص: 28 ] الملائكة وصديق من الناس . ولفظة الشفيع تقتضي رفعة مكانة عند المشفوع عنده ، ولفظة الصديق تقتضي شدة مساهمة ونصرة ، وهو فعيل من صدق الود من أبنية المبالغة ، ونفي الشفعاء والصديق يحتمل أن يكون نفيا لوجودهم إذ ذاك ، وهم موجودون للمؤمنين ، إذ تشفع الملائكة وتتصادق المؤمنون ، كما قال : " ابن جريج الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " ، أو ذلك على حسب اعتقادهم في معبوداتهم أنهم شفعاؤهم عند الله ، وأن لهم أصدقاء من الإنس والشياطين ، فقصدوا بنفيهم نفي ما يتعلق بهم من النفع ، لأن ما لا ينفع ، حكمه حكم المعدوم ، فصار المعنى : فما لنا من نفع من كنا نعتقد أنهم شفعاء وأصدقاء ، وجمع الشفعاء لكثرتهم في العادة . ألا ترى أنه يشفع فيمن وقع في ورطة من لا يعرفه ، وأفرد الصديق لقلته ، وأريد به الجمع ؟ إذ يقال : هم صديق ، أي أصدقاء ، كما يقال : هم عدو ، أي أعداء . والظاهر أن لو هنا أشربت معنى التمني ، و " فنكون " الجواب ، كأنه قيل : يا ليت لنا كرة فنكون . وقيل : هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره ، فيكون قوله : ( فنكون ) معطوفا على " كرة " ، أي فنكون من المؤمنين ، وجواب لو محذوف ، أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء ، أو لخلصنا من العذاب . والظاهر أن هذه الجمل كلها متعلقة بقول إبراهيم ، أخبر بما أعلمه الله من أحوال يوم القيامة ، وما يكون فيها من حال قومه .
وقال ابن عطية : وهذه الآيات من قوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون هي عندي منقطعة من كلام إبراهيم - عليه السلام - وهي إخبار من الله - عز وجل - تعلق بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم - عليه السلام - عنده في دعائه أن لا يخزى فيه . انتهى . وكان ابن عطية قد أعرب يوم لا ينفع بدلا من " يوم يبعثون " ، وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام ، وجعل بعضه من كلام إبراهيم ، وبعضه من كلام الله ؛ لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول ، أو الأول . وعلى كلا التقديرين ، لا يصح أن يكون من كلام الله ؛ إذ يصير التقدير : ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون . والإشارة بقوله " إن في ذلك لآية " إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - ومحاورته لقومه . " وما كان أكثرهم " : أي أكثر قوم إبراهيم . بين - تعالى - أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم - عليه السلام - وفي ذلك مسلاة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في تكذيب قومه إياه عليه السلام .