الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني ، [ ص: 529 ] وأمر بتبليغ ما أنزل إليه ، صلى الله عليه وسلم ، وهو قد بلغ ما أنزل إليه ، فهو أمر بالديمومة . قال الزمخشري : جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحدا ، ولا خائف أن ينالك مكروه . وقال ابن عطية : أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ، لأنه قد قال : بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد ، وذلك أن رسالته ، عليه السلام ، تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم ، فكان يلقى منهم عنتا ، وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية . وعن ابن عباس عنه ، عليه السلام ، : " لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية " . وقيل : هو أمر بتبليغ خاص ; أي : ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره اليهود في التوراة والنصارى في الإنجيل . وقيل : أمر بتبليغ أمر زينب بنت جحش ونكاحها . وقيل : بتبليغ الجهاد والحث عليه ، وأن لا يتركه لأجل أحد . وقيل : أمر بتبليغ معائب آلهتهم ، إذ كان قد سكت عند نزول قوله : ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) الآية - عن عيبها ، وكل واحد من هذا التبليغ الخاص قيل إنها نزلت بسببه ، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر اليهود والنصارى ، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد ، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم ، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها .

( وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) أي : وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك ، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط ، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل ، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه . فقال الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا ، كان أمرا شنيعا . وقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : ( فكأنما قتل الناس جميعا ) والثاني : أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله ، عليه السلام ، : ( فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك ) . وقال ابن عطية أي : إن تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتد به . فمعنى : وإن لم تفعل ، وإن لم تستوف . ونحو هذا قول الشاعر :


سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا فسيان لا ذم عليك ولا حمد



أي إن لم تعط ما يعد نائلا وألا تتكاذب . . . . . . البيت . وقال أبو عبد الله الرازي : أجاب الجمهور بإن لم تبلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا . وهذا ضعيف ، لأن من أتى بالبعض وترك البعض . فإن قيل : إنه ترك الكل كان كاذبا ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحال الممتنع ، فسقط هذا الجواب . انتهى . وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به ، لأنه قال : فإن قيل إنه ترك الكل - كان كاذبا ، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا : إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا . كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن ، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به ، وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع ، فلا استحالة فيه . ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم ، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم ، ويؤاخذ بالذنب الحقير : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية ، رتب على من أخذ شيئا بالاختفاء والتستر ، قطع اليد مع رد ما أخذه أو قيمته ، ورتب على من أخذ شيئا بالقهر والغلبة والغصب رد ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون [ ص: 530 ] قطع اليد . وقال أبو عبد الله الرازي : والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله : أنا أبو النجم وشعري شعري ، ومعناه : أن شعري بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها ، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه ، فكذا ههنا . قال : فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ; يعني : أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم ، فكان ذلك تنبيها على التهديد والوعيد . وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر : رسالاته ; على الجمع . وقرأ باقي السبعة على التوحيد .

( والله يعصمك من الناس ) أي : لا تبال في التبليغ ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة ولا باغتيال ، ولا باستيلاء عليك بأخذ وأسر . قال محمد بن كعب : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ليقتله . انتهى ، وهو غورث بن الحارث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع .

وروى المفسرون أن أبا طالب كان يرسل رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : ( والله يعصمك من الناس ) ; فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا أحتاج إلى من يحرسني . وقال ابن جريج : كان يهاب قريشا فلما نزلت استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثا . وروى أبو أمامة حديث " ركانة " " 0000 من ولد هاشم مشركا أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثلاثا ودعاه إلى الإسلام ، فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه . وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره معه وضحك ، وقرأ والله يعصمك من الناس . وهذا وما قبله يدل على أن ذلك نزل بمكة أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهرا ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام حتى غط ، فنزلت ، فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال : ( انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني ) وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم : وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم أحد فقيل : الآية نزلت بعد أحد ، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد ، وما أعظم تكليفهم . وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار ، والناس : عام يراد به الكفار ; يدل عليه ما بعده . وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به ، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصد الأعداء له مغالبة واغتيالا . وفيه دليل على صحة نبوته ، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى ، وكذا جميع ما أخبر به .

( إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أي : إنما عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدا ، فيكون خاصا . قال ابن عطية : أما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره . وقال الزمخشري : ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله ، بل من الهلاك . انتهى . وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك . وقيل : المعنى لا يهديهم إلى الجنة . والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولا .

التالي السابق


الخدمات العلمية