كان أخاهم من النسب ، وكان تاجرا جميلا ، أشبه الخلق بآدم - عليه السلام - عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة ، وبينه وبين ثمود مائة سنة . وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت ، أمرع البلاد ، فجعلها الله مفاوز ورمالا . أمرهم أولا بما أمر به نوح قومه ، ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم ، فقال : ( أتبنون بكل ريع ) ؟ قال : هو رأس الزقاق . وقال ابن عباس مجاهد : فج بين جبلين . وقال عطاء : عيون فيها الماء . وقال ابن بحر : جبل . وقيل : الثنية الصغيرة . وقرأ الجمهور : ريع بكسر الراء ، : بفتحها . قال وابن أبي عبلة : ( آية ) علما . وقال ابن عباس مجاهد : أبراج الحمام . وقال النقاش وغيره : القصور الطوال . وقيل : بيت عشار . وقيل : ناديا للتصلف . وقيل : أعلاما طوالا ليهتدوا بها في أسفارهم ، عبثوا بها لأنهم كانوا يهتدون بالنجوم . وقيل : علامة يجتمع إليها من يعبث بالمار في الطريق . وفي قوله إنكار للبناء على صورة العبث ، كما يفعل المترفون في الدنيا . والمصانع : جمع مصنعة . قيل : وهي البناء على الماء . وقيل : القصور المشيدة المحكمة . وقيل : الحصون . وقال قتادة : برك الماء . وقيل : بروج الحمام . وقيل : المنازل . واتخذ هنا بمعنى عمل ، أي ويعملون مصانع ، أي تبنون . وقاللبيد :
وتبقى جبـال بعـدنـا ومصـانع
( لعلكم تخلدون ) الظاهر أن لعل على بابها من الرجاء ، وكأنه تعليل للبناء والاتخاذ ، أي الحامل لكم على ذلك هو الرجاء للخلود ، ولا خلود . وفي قراءة عبد الله : كي تخلدون ، أو يكون المعنى يشبه حالكم حال من يخلد ، فلذلك بنيتم واتخذتم . وقال ابن زيد : معناه الاستفهام على سبيل التوبيخ والهزء بهم ، أي هل أنتم تخلدون : وكون " لعل " للاستفهام مذهب كوفي . وقال : المعنى كأنكم خالدون ، وفي حرف ابن عباس أبي : كأنكم تخلدون . وقرئ : كأنكم خالدون . وقرأ أبي ، وعلقمة ، وأبو العالية ، مبنيا للمفعول مشددا ، كما قال الشاعر :
[ ص: 33 ]
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد قليل الهموم ما يبيت بأوجال
وإذا بطشتم : أي أردتم البطش ، وحمل على الإرادة لئلا يتحد الشرط وجوابه ، كقوله :
متـى تبعثوهـا تبعثوهـا ذميمـة
أي متى أردتم بعثها . قال الحسن : بادروا تعذيب الناس من غير تثبت ولا فكر في العواقب . وقيل : المعنى أنكم كفار الغضب ، لكم السطوات المفرطة والبوادر . فبناء الأبنية العالية تدل على حب العلو ، واتخاذ المصانع رجاء الخلود يدل على البقاء ، والجبارية تدل على التفرد بالعلو ، وهذه صفات الإلهية ، وهي ممتنعة الحصول للعبد . ودل ذلك على استيلاء حب الدنيا عليهم بحيث خرجوا عن حد العبودية ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة . ولما نبههم ووبخهم على أفعالهم القبيحة ، أمرهم ثانيا بتقوى الله وطاعة نبيه . ثم أمرهم ثالثا بالتقوى تنبيها لهم على إحسانه - تعالى - إليهم ، وسبوغ نعمته عليهم . وأبرز صلة ( الذي ) متعلقة بعلمهم ، تنبيها لهم وتحريضا على الطاعة والتقوى ، إذ شكر المحسن واجب ، وطاعته متعينة ، ومشيرا إليهم بأن من أمد بالإحسان هو قادر على سلبه ، وعلى تعذيب من لم يتقه ، إذ هذا الإمداد ليس من جهتكم ، وإنما هو من تفضله - تعالى - عليكم بحيث أتبعكم إحسانه شيئا بعد شيء . ولما أتى بذكر ما أمدهم به مجملا محالا على علمهم ، أتى به مفصلا . فبدأ بالأنعام ، وهي التي تحصل بها الرئاسة في الدنيا ، والقوة على من عاداهم ، والغنى هو السبب في حصول الذرية غالبا لوجده . وبحصول القوة أيضا بالبنين ، فلذلك قرنهم بالأنعام ، ولأنهم يستعينون بهم في حفظها والقيام عليها . وأتبع ذلك بالبساتين والمياه المطردة ، إذ الإمداد بذلك من إتمام النعمة .
( وبأنعام ) : ذهب بعض النحويين إلى أنه بدل من قوله : ( بما تعملون ) وأعيد العامل كقوله : ( اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم ) . والأكثرون لا يجعلون مثل هذا بدلا وإنما هو عندهم من تكرار الجمل ، وإن كان المعنى واحدا ، ويسمى التتبيع ، وإنما يجوز أن يعاد عندهم العامل إذا كان حرف جر دون ما يتعلق به ، نحو : مررت بزيد بأخيك ، ثم حذرهم عذاب الله ، وأبرز ذلك في صورة الخوف لا على سبيل الجزم ، إذ كان راجيا لإيمانهم ، فكان من جوابهم أن قالوا : ( سواء علينا ) وعظك وعدمه ، وجعلوا قوله وعظا ، إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به ، وأنه كاذب فيما ادعاه ، وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به . وقرأ الجمهور : وعظت ، بإظهار الظاء . وروي عن أبي عمرو ، ، والكسائي وعاصم : إدغام الظاء في التاء . وبالإدغام ، قرأ ابن محيصن ، ، إلا أن والأعمش زاد ضمير المفعول فقرأ : أوعظتنا . وينبغي أن يكون إخفاء ، لأن الظاء مجهورة مطبقة ، والتاء مهموسة منفتحة ، فالظاء أقوى من التاء ، والإدغام إنما يحسن في المتماثلين ، أو في المتقاربين ، إذا كان الأول أنقص من الثاني . وأما إدغام الأقوى في الأضعف ، فلا يحسن . على أنه قد جاء من ذلك أشياء في القرآن بنقل الثقات ، فوجب قبولها ، وإن كان غيرها هو أفصح وأقيس . الأعمش
وعادل ( أوعظت ) بقوله : ( أم لم تكن من الواعظين ) وإن كان قد يعادله : أم لم تعظ . كما قال : ( سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ) لأجل الفاصلة ، كما عادلت في قوله : ( سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون ) ولم يأت التركيب أم صمتم ، وكثيرا ما يحسن مع الفواصل ما لا يحسن دونه . وقال : بينهما فرق ، يعني بين ما جاء في الآية وهي : أم لم تعظ ، قال : لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أم لم تكن أصلا من أهله ومباشرته ، فهو أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه من قولك : أم لم تعظ . ولما لم يبالوا بما أمرهم به ، وبما ذكرهم من نعم الله وتخويفه الانتقام منهم ، أجابوه بأن قالوا : ( الزمخشري إن هذا إلا خلق الأولين ) . وقرأ عبد الله ، وعلقمة ، والحسن ، وأبو جعفر ، وأبو عمرو ، وابن كثير ، : " خلق " ، بفتح الخاء وسكون اللام ، فهو يحتمل أن يكون المعنى : إن هذا الذي تقوله وتدعيه [ ص: 34 ] إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك ، فأنت على مناهجهم . وروى والكسائي علقمة عن عبد الله : إن هذا إلا اختلاق الأولين . ويحتمل أن يكون المعنى : ما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون ، حياة وموت ولا بعث ولا تعذيب . وقرأ باقي السبعة : " خلق " بضمتين ؛ وأبو قلابة ، عن والأصمعي نافع : بضم الخاء وسكون اللام ؛ وتحتمل هذه القراءة ذينك الاحتمالين اللذين في " خلق " .