[ ص: 40 ] الضمير في : ( وإنه ) عائد على القرآن ، أي إنه ليس بكهانة ولا سحر ، بل هو من عند الله ، وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ، ليتناسب المفتتح والمختتم . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وحفص : ( نزل ) مخففا ، و ( الروح الأمين ) مرفوعان ؛ وباقي السبعة : بالتشديد ونصبهما . والروح هنا : جبريل - عليه السلام - وقد تقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح ، وبه قال ابن عطية : في موضع الحال كقوله : ( وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ) . انتهى . والظاهر تعلق ( على قلبك ) و ( لتكون ) بـ " نزل " ، وخص القلب ، والمعنى عليك ، لأنه محل الوعي والتثبيت ، وليعلم أن المنزل على قلبه - عليه السلام - محفوظ ، لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير ، وليكون علة في التنزيل أو النزول اقتصر عليها ، لأن ذلك أزجر للسامع ، وإن كان القرآن نزل للإنذار والتبشير . والظاهر تعلق ( بلسان ) بـ " نزل " ، فكان يسمع من جبريل حروفا عربية . قال ابن عطية ، وهو القول الصحيح : وتكون صفة لشدة الصوت وتداخل حروفه وعجلة مورده وإغلاظه . ويمكن أن يتعلق بقوله : ( لتكون ) وتمسك بهذا من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسمع أحيانا مثل صلصلة الجرس ، يتفهم له منه القرآن ، وهو مردود . انتهى . وقال صلصلة الجرس : ( بلسان ) إما أن يتعلق بالمنذرين ، فيكون المعنى : لتكون من الذين أنذروا بهذا اللسان ، وهم خمسة : الزمخشري هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم وعليهم - ؛ وإما أن يتعلق بـ " نزل " ، فيكون المعنى : نزله باللسان العربي المبين لتنذر به ، لأنه لو نزله باللسان الأعجمي ، لتجافوا عنه أصلا ، وقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه ؟ فيتعذر الإنذار به . وفي هذا الوجه ، إن تنزيله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك ، تنزيل له على قلبك ، لأنك تفهمه ويفهمه قومك . ولو كان أعجميا ، لكان نازلا على سمعك دون قلبك ، لأنك تسمع أجراس حروف لا تفهم معانيها ولا تعيها ، وقد يكون الرجل عارفا بعدة لغات ، فإذا كلم بلغتها التي لقنها أولا ونشأ عليها وتطبع بها ، لم يكن قلبه إلا إلى معاني تلك الكلم يتلقاها بقلبه ، ولا يكاد يفطن للألفاظ كيف جرت . وإن كلم بغير تلك اللغة ، وإن كان ماهرا بمعرفتها ، كان نظره أولا في ألفاظها ، ثم في معانيها . فهذا تقرير أنه نزل على قلبه لنزوله بلسان عربي مبين . انتهى . وفيه تطويل .
وإنه ، أي القرآن ( لفي زبر الأولين ) أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة ، منبه عليه مشار إليه . وقيل : إن معانيه فيها ، وبه يحتج لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة ، على [ ص: 41 ] أن القرآن قرآن إذا ترجم بغير العربية ، حيث قيل : ( وإنه لفي زبر الأولين ) لكون معانيه فيها . وقيل : الضمير عائد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي إن ذكره ورسالته في الكتب الإلهية المتقدمة ، يكون التفاتا ، إذ خرج من ضمير الخطاب في قوله : ( على قلبك لتكون ) إلى ضمير الغيبة ، وكذلك قيل في أن يعلمه ، أي أن يعلم محمدا - صلى الله عليه وسلم - ، وتناسق الضمائر لشيء واحد أوضح . وقرأ : لفي زبر ، بسكون الباء ، والأصل الضم ، ثم احتج عليهم بأنهم كان ينبغي أن يصحح عندهم أمره كون علماء الأعمش بني إسرائيل يعلمونه ، أي أولم يكن لهم علامة على صحته علم بني إسرائيل به ؟ إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور النقلية إلى بني إسرائيل ، ويسألونهم عنها ويقولون : هم أصحاب الكتب الإلهية . وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير ، لاعتقادهم في صحة دينهم . وذكر الثعلبي ، عن ، أن أهل ابن عباس مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : هذا زمانه ، ووصفوا نعته ، وخلطوا في أمر محمد - عليه السلام - فنزلت الآية في ذلك ، ويؤيد هذا كون الآية مكية . وقال مقاتل : هي مدنية .
( علماء بني إسرائيل ) ونحوه ، قاله عبد الله بن سلام ابن عباس ومجاهد ، وذلك أن جماعة منهم أسلموا ونصوا على مواضع من التوراة والإنجيل ذكر فيها الرسول - عليه السلام - قال تعالى : ( وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا ) الآية . وقيل : علماؤهم من أسلم منهم ومن لم يسلم . وقيل : أنبياؤهم ، حيث نبهوا عليه وأخبروا بصفته وزمانه ومكانه . وقرأ الجمهور : ( أولم يكن ) بالياء من تحت ( آية ) بالنصب ، وهي قراءة واضحة الإعراب توسط خبر يكن ، و ( أن يعلمه ) هو الاسم . وقرأ ابن عامر ، والجحدري : تكن بالتاء من فوق ، " آية " : بالرفع . قال : جعلت " آية " اسما ، وأن يعلمه خبرا ، وليست كالأولى لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا ، وقد خرج لها وجه آخر ليتخلص من ذلك ، فقيل : في تكن ضمير القصة ، و " آية أن يعلمه " جملة واقعة موقع الخبر ، ويجوز على هذا أن يكون " لهم آية " جملة الشأن ، و " أن يعلمه " بدلا من " آية " . انتهى . وقرأ الزمخشري : تكن بالتاء من فوق ، " آية " بالنصب ، كقراءة من قرأ : ثم ( لم تكن ) بتاء التأنيث ( ابن عباس فتنتهم ) بالنصب ، إلا أن قالوا ، وكقول لبيد :
فمضى وقدمها وكانت عادة منه إذا هي عردت إقدامها
ودل ذلك إما على تأنيث الاسم لتأنيث الخبر ، وإما لتأويل " أن يعلمه " بالمعرفة ، وتأويل ( إلا أن قالوا ) بالمقالة ، وتأويل الإقدام بالإقدامة . وقرأ الجحدري : " أن تعلمه " بتاء التأنيث ، كما قال الشاعر :
قالت بنو عامر خالوا بني أسد يا بؤس للجهل ضرارا لأقوام
وكتب في المصحف : " علمؤا " بواو بين الميم والألف . قيل : على لغة من يميل ألف " علمؤا " إلى الواو ، كما كتبوا " الصلوة والزكوة والربوا " على تلك اللغة . قال : الأعجمي الذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة واستعجام ، والأعجمي مثله إلا أن فيه لزيادة ياء النسبة زيادة توكيد . وقال الزمخشري ابن عطية : الأعجمون جمع أعجم ، وهو الذي لا يفصح ، وإن كان عربي النسب يقال له أعجم ، وذلك يقال للحيوانات والجمادات ، ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : . وأسند " جرح العجماء جبار " ، عن الطبري عبد الله بن مطيع أنه قال حين قرأ هذه الآية وهو واقف بعرفة : " جملي هذا أعجم ، فلو أنزل عليه ما كانوا يؤمنون " . والعجمي هو الذي نسبته في العجم ، وإن كان أفصح الناس . انتهى . وفي التحرير : ( الأعجمين ) جمع أعجم على التخفيف ، ولولا هذا التقدير لم يجز أن يجمع جمع سلامة . قيل : والمعنى ولو نزلناه بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على العرب ، لم يؤمنوا به ، حيث لم يفهموه ، واستنكفوا من اتباعه . وقيل : ولو نزلنا القرآن [ ص: 42 ] على بعض العجم من الدواب فقرأه عليهم ، لم يؤمنوا ، لعنادهم لقوله - تعالى - : ( ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ) الآية ، وجمع جمع السلامة ، لأنه وصف بالإنزال عليه والقراءة ، وهو فعل العقلاء . وقيل : ولو نزل على بعض البهائم ، فقرأه عليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تؤمن البهائم ، كذلك هؤلاء لأنهم : ( كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) انتهى .
ولما بين بما تقدم ، من أن هذا القرآن في كتب الأولين ، وأن علماء بني إسرائيل يعلمون ذلك ، وكان في ذلك دليلان على صدق نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أن هؤلاء الكفار لا تجدي فيهم الدلائل . ألا ترى نزوله على رجل عربي بلسان عربي ، وسمعوه وفهموه وأدركوا إعجازه وتصديق كتب الله القديمة له ، ومع ذلك جحدوا وسموه تارة شعرا وتارة سحرا ؟ ولو نزل على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية ، لكفروا به وتمحلوا بجحوده . وقال الفراء : الأعجمين جمع أعجم أو أعجمي ، على حذف ياء النسب ، كما قالوا : الأشعرين ، وواحدهم أشعري . وقال ابن الجهم : قال : الكميت
ولو جهزت قافية شرودا لقد دخلت بيوت الأشعرينا
انتهى . وقرأ الحسن ، وابن مقسم : " الأعجميين " ، بياء النسب : جمع أعجمي . والضمير في ( سلكناه ) الظاهر أنه عائد على ما عادت عليه الضمائر . قيل : وهو القرآن ، وقاله الرماني . والمعنى : مثل ذلك السلك ، وهو الإدخال والتمكين والتفهيم لمعانيه . ( سلكناه ) أدخلناه ومكناه في ( قلوب المجرمين ) . والمعنى : ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه ، ولم يزدهم ذلك إلا عنادا وجحودا وكفرا به ، أي على مثل هذه الحالة وهذه الصفة من الكفر به والتكذيب له ، كما وضعناه فيها . فكيف ما يرام إيمانهم به لم يتغير ؟ وأعماهم عليه من الإنكار والجحود ، كما قال : ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس ) الآية . وقال الكرماني : أدخلناه فيها ، فعرفوا معانيه ، وعجزهم عن الإتيان بمثله ، ولم يؤمنوا به . وقال : الضمير في سلكناه يعود على التكذيب ، فذلك الذي منعهم من الإيمان . انتهى . ويقويه قوله : ( يحيـى بن سلام فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين ) . وقال الحسن : الضمير يعود على الكفر الذي يتضمنه قوله : ( ما كانوا به مؤمنين ) . انتهى . وهو قريب من القول الذي قبله . وقال عكرمة : سلكناه ، أي القسوة ، وأسند السلك - تعالى - إليه ؛ لأنه هو موجد الأشياء حقيقة ، وهو الهادي وخالق الضلال .
وقال : ( فإن قلت ) : كيف أسند السلك بصفة التكذيب إلى ذاته ؟ ( قلت ) : أراد به الدلالة على تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكين وأثبته ، فجعله بمنزلة أمر قد جبلوا عليه . ألا ترى إلى قولهم : هو مجبول على الشح ؟ يريدون تمكن الشح فيه ، لأن الأمور الخلقية أثبت من العارضة ، والدليل عليه أنه أسند ترك الإيمان به إليهم على عقبه ، وهو قوله : ( الزمخشري لا يؤمنون ) به . انتهى . وهو على طريقة الاعتزال والتشبيه بين السلكين ، يقتضي تغاير من حل به . والمعنى : مثل ذلك السلك في قلوب قريش ، سلكناه في قلوب من أجرم ، لاشتراكهما في علة السلك وهو الإجرام . قال ابن عطية : أراد بهم مجرمي كل أمة ، أي إن هذه عادة الله فيهم ، أنهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب ، فلا ينفعهم الإيمان بعد تلبس العذاب بهم ، وهذا على جهة المثال لقريش ، أي هؤلاء كذلك ، وكشف الغيب بما تضمنته الآية يوم بدر .
قال : ( فإن قلت ) : ما موقع ( الزمخشري لا يؤمنون به ) من قوله : ( سلكناه في قلوب المجرمين ) ؟ ( قلت ) : موقعه منه موقع الموضح والملخص ؛ لأنه مسوق لثباته ، مكذبا مجحودا في قلوبهم ، فأتبع بما يقرر هذا المعنى من أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد ، ويجوز أن يكون حالا ، أي سلكناه فيها غير مؤمن به . انتهى . ورؤيتهم العذاب ، قيل : في الدنيا ، وقيل : يوم القيامة . وقرأ الجمهور : ( فيأتيهم ) بياء ، أي العذاب . وقرأ الحسن ، وعيسى : بتاء التأنيث ، أنث على معنى العذاب لأنه العقوبة ، أي فتأتيهم العقوبة يوم القيامة ، كما قال : أتته [ ص: 43 ] كتابي ، فلما سئل قال : أو ليس بصحيفة ؟ قال : فتأتيهم بالتاء ، يعني الساعة . وقال الزمخشري أبو الفضل الرازي : أنث العذاب لاشتماله على الساعة ، فاكتسى منها التأنيث ، وذلك لأنهم كانوا يسألون عذاب القيامة تكذيبا بها ، فلذلك أنث . ولا يكتسي المذكر من المؤنث تأنيثا إلا إن كان مضافا إليه نحو : اجتمعت أهل اليمامة ، وقطعت بعض أصابعه ، وشرقت صدر القناة ، وليس كذلك . وقرأ الحسن : " بغتة " ، بفتح الغين ، " فتأتيهم " بالتاء من فوق ، يعني الساعة .
وقال : ( فإن قلت ) : ما معنى التعقيب في قوله : ( الزمخشري فتأتيهم بآية ) ( قلت ) : ليس المعنى يراد برؤية العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة فيه الوجود ، وإنما المعنى ترتبها في الشدة ، كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب مما هو أشد منها ، وهو لحوقه بهم مفاجأة مما هو أشد منه ، وهو سؤالهم النظرة . ومثل ذلك أن تقول : إن أسأت مقتك الصالحون ، فمقتك الله ، فإنك لا تقصد بهذا الترتيب أن مقت الله يوجد عقيب مقت الصالحين ، وإنما قصدك إلى ترتيب شدة الأمر على المسيء ، وأنه يحصل له بسبب الإساءة مقت الصالحين . فما هو أشد من مقتهم ؟ وهو مقت الله . ويرى ، ثم يقع هذا في هذا الأسلوب ، فيحل موقعه . انتهى . ( فيقولوا ) أي كل أمة معذبة : ( هل نحن منظرون ) أي مؤخرون ، وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة . ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفا وغير ذلك ، وقولهم للرسول : أين ما تعدنا به ؟
وقال : ( الزمخشري أفبعذابنا يستعجلون ) تبكيت لهم بإنكاره وتهكم ، ومعناه : كيف يستعجل العذاب من هو معرض لعذاب يسأل فيه - من جنس ما هو فيه اليوم - من النظرة والإمهال طرفة عين فلا يجاب إليها . ويحتمل أن يكون هذا حكاية توبيخ ، يوبخون به عند استنظارهم يومئذ ، ويستعجلون هذا على الوجه ، حكاية حال ماضية ووجه آخر متصل بما بعده ، وذلك أن استعجالهم بالعذاب إما كان لاعتقادهم أنه غير كائن ولا لاحق بهم ، وأنهم ممتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن . فقال عز وعلا : ( أفبعذابنا يستعجلون ) ؟ أشرا وبطرا واستهزاء واتكالا على الأمل الطويل ؟ ثم قال : وهب أن الأمر كما يعتقدون من تمتعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ، ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معايشهم ؟ انتهى . وقيل : أتبع قوله : " فتأتيهم بغتة " بما يكون منهم عند ذلك على وجه الحسرة . ( فيقولوا هل نحن منظرون ) كما يستغيث إليه المرء عند تعذر الخلاص ، لأنهم يعلمون في الآخرة أن لا ملجأ ، لكنهم يقولون ذلك استرواحا . وقيل : يطلبون الرجعة حين يبغتهم عذاب الساعة ، فلا يجابون إليها .