[ ص: 46 ] كان مشركو قريش يقولون : إن لمحمد تابعا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة ، فنزلت ، والضمير في ( به ) يعود على القرآن ، بل ( نزل به الروح الأمين ) . وقرأ الحسن : الشياطون ، وتقدمت في البقرة ، وقد ردها أبو حاتم والقرأة ؛ قال أبو حاتم : هي غلط منه أو عليه . وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين . وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية . وقال الفراء : غلط الشيخ ، ظن أنها النون التي على هجائن . فقال : إن جاز أن يحتج بقول النضر بن شميل العجاج ورؤبة ، فهلا جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه ، يريد محمد بن السميفع ، مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ بها إلا وقد سمعا فيه ؟ وقال : سمعت أعرابيا يقول : دخلت بساتين من ورائها بساتون ، فقلت : ما أشبه هذا بقراءة يونس بن حبيب الحسن . انتهى . ووجهت هذه القراءة بأنه لما كان آخره كآخر يبرين وفلسطين ، فكما أجري إعراب هذا على النون تارة وعلى ما قبله تارة فقالوا : يبرين ويبرون وفلسطين وفلسطون ؛ أجري ذلك في الشياطين تشبيها به فقالوا : الشياطين والشياطون . وقال أبو فيد مؤرج السدوسي : إن كان اشتقاقه من شاط ، أي احترق ، يشيط شوطة ، كان لقراءتهما وجه . قيل : ووجهها أن بناء المبالغة منه شياط ، وجمعه الشياطون ، فخففا الياء ، وقد روي عنهما التشديد ، وقرأ به غيرهما . انتهى . وقرأ : الشياطون ، كما قرأه الأعمش الحسن وابن السميفع . فهؤلاء الثلاثة من نقلة القرآن ، قرءوا ذلك ، ولا يمكن أن يقال غلطوا ؛ لأنهم من العلم ونقل القرآن بمكان . وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل ؛ نفى أولا تنزيل الشياطين به ، والنفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن ، ثم نفى انبغاء ذلك والصلاحية ، أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له ، ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به ، فارتقى من نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والاستطاعة ، وذلك مبالغة مترتبة في نفي تنزيلهم به ، ثم علل انتفاء ذلك عن استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب .
ثم قال تعالى : ( فلا تدع مع الله إلها آخر ) والخطاب في الحقيقة للسامع ؛ لأنه - تعالى - قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال المفسرون : المعنى قل يا محمد لمن كفر : لا تدع مع الله إلها آخر . ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته ، والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ، ونبه على العشيرة ، وإن كان مأمورا بإنذار الناس كافة . كما قال : ( أن أنذر الناس ) لأن في إنذارهم ، وهم عشيرته ، عدم محاباة ولطف بهم ، وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار . فإذا كانت القرابة قد خوفوا وأنذروا مع ما يلحق الإنسان في حقهم من الرأفة ، كان غيرهم في ذلك أوكد وأدخل ، أو لأن البداءة تكون بمن يليه ثم من بعده ، كما قال : ( قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) . وقال - عليه الصلاة والسلام - حين دخل مكة : " تحت قدمي هاتين ، فأول ما أضعه ربا العباس كل ربا في الجاهلية موضوع إذ العشيرة مظنة الطواعية ، ويمكنه من الغلظة عليهم ما لا يمكنه مع غيرهم ، وهم له أشد احتمالا " . وامتثل - صلى الله عليه وسلم - ما أمره به ربه من إنذار عشيرته ، فنادى الأقرب فالأقرب فخذا . وروي عنه في ذلك أحاديث . ( واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ) تقدم الكلام على هذه الجمل في آخر الحجر ، وهو كناية عن التواضع . وقال بعض الشعراء :
وأنت الشهير بخفض الجناح فلا تك في رفعه أجدلا
نهاه عن التكبر بعد التواضع . والأجدل : الصقر ، و " من المؤمنين " عام في عشيرته وغيرهم . ولما كان الإنذار يترتب عليه إما الطاعة وإما العصيان ، جاء التقسيم عليهما ، فكان المعنى : أن من اتبعك مؤمنا ، [ ص: 47 ] فتواضع له ؛ فلذلك جاء قسيمه : ( فإن عصوك ) فتبرأ منهم ومن أعمالهم . وفي هذا موادعة نسختها آية السيف . والظاهر عود الضمير المرفوع في عصوك ، على أن من أمر بإنذارهم ، وهم العشيرة ، والذي برئ منه هو عبادتهم الأصنام واتخاذهم إلها آخر . وقيل : الضمير يعود على من اتبعه من المؤمنين ، أي فإن عصوك يا محمد في الأحكام وفروع الإسلام ، بعد تصديقك والإيمان بك ( فقل إني بريء مما تعملون ) لا منكم ، أي أظهر عدم رضاك بعملهم وإنكارك عليهم . ولو أمره بالبراءة منهم ، ما بقي بعد هذا شفيعا للعصاة ، ثم أمره - تعالى - بالتوكل . وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وشيبة : " فتوكل " بالفاء ، وباقي السبعة : بالواو . وناسب الوصف بالعزيز ، وهو الذي لا يغالب ، وبالرحيم ، وهو الذي يرحمك . وهاتان الصفتان هما اللتان جاءتا في أواخر قصص هذه السورة . فالتوكل على من هو بهذين الوصفين كافيه شر من بغضه من هؤلاء وغيرهم ، فهو يقهر أعداءك بعزته ، وينصرك عليهم برحمته . والتوكل هو تفويض الأمر إلى من يملك الأمر ويقدر عليه . ثم وصف بأنه الذي أنت منه بمرأى ، وذلك من رحمته بك أن أهلك لعبادته ، وما تفعله من تهجدك . وأكثر المفسرين منهم ، على أن المعنى حين تقوم إلى الصلاة . ابن عباس
وقرأ الجمهور : ( وتقلبك ) مصدر تقلب وعطف على الكاف في يراك . وقرأ جناح بن حبيش وتقلبك مضارع قلب مشددا ، عطفا على ( يراك ) . وقال مجاهد وقتادة : ( في الساجدين ) في المصلين . وقال : في أصلاب ابن عباس آدم ونوح وإبراهيم حتى خرجت . وقال عكرمة : يراك قائما وساجدا . وقيل : معنى ( تقوم ) تخلو بنفسك . وعن مجاهد أيضا : المراد تقلب بصره فيمن يصلي خلفه ، كما قال : " أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلفي " . وفي الوجيز لابن عطية : ظاهر الآية أنه يريد قيام الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات ، وهو تأويل مجاهد وقتادة . وفي الساجدين : أي صلاتك مع المصلين ، قاله ابن عباس وعكرمة وغيرهما . وقال أيضا ، ابن عباس وقتادة : أراد وتقلبك في المؤمنين ، فعبر عنهم بالساجدين . وقال ابن جبير : أراد الأنبياء ، أي تقلبك كما تقلب غيرك من الأنبياء . وقال : ذكر ما كان يفعله في جوف الليل من قيامه للتهجد ، وتقلبه في تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ، ليطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، ويستبطن سرائرهم وكيف يعملون لآخرتهم . كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل ، طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون ، بحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات ، فوجدها كبيوت الزنابير ، لما سمع من دندنتهم بذكر الله والتلاوة . والمراد بالساجدين : المصلون . وقيل : معناه يراك حين تقوم للصلاة بالناس جماعة ، وتقلبه في الساجدين : تصرفه فيما بينهم لقيامه وركوعه وسجوده وقعوده إذا أمهم . وعن الزمخشري مقاتل ، أنه سأل - رضي الله عنه - : هل تجد الصلاة في الجماعة في القرآن ؟ فتلا هذه الآية . ويحتمل أن لا يخفى علي حالك كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين . انتهى . أبا حنيفة
( إنه هو السميع ) لما تقوله ( العليم ) بما تنويه وتعمله ، وذهبت الرافضة إلى أن آباء النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مؤمنين ، واستدلوا بقوله تعالى : ( وتقلبك في الساجدين ) قالوا : فاحتمل الوجوه التي ذكرت ، واحتمل أن يكون المراد أنه - تعالى - نقل روحه من ساجد إلى ساجد ، كما نقوله نحن . فإذا احتمل كل هذه الوجوه ، وجب حمل الآية على الكل ضرورة ، لأنه لا منافاة ولا رجحان . وبقوله - عليه الصلاة والسلام - : " ، وكل من كان كافرا فهو نجس لقوله تعالى لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات : ( إنما المشركون نجس ) فأما قوله - تعالى - : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) فلفظ الأب قد يطلق على العم ، كما قالوا أبناء يعقوب له : ( نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) . سموا إسماعيل أبا مع أنه كان عما له .