هذه السورة مكية بلا خلاف . ومناسبة أول السورة لآخر ما قبلها واضحة ، لأنه قال : ( وما تنزلت به الشياطين ) وقبله : ( وإنه لتنزيل رب العالمين ) وقال هنا : ( طس تلك آيات القرآن ) أي الذي هو تنزيل رب العالمين . وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم ؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم . والكتاب المبين ، إما اللوح ، وإبانته أن قد خط فيه كل ما هو كائن فهو يبينه للناظرين ، وإما السورة ، وإما القرآن ، وإبانتهما أنهما يبينان ما أودعاه من العلوم والحكم والشرائع . وأن إعجازهما ظاهر مكشوف ونكر . ( وكتاب مبين ) ليبهم بالتنكير ، فيكون أفخم له كقوله : ( في مقعد صدق ) . وإذا أريد به القرآن ، فعطفه من عطف إحدى الصفتين على الأخرى ، لتغايرهما في المدلول عليه بالصفة ، من حيث أن مدلول القرآن الاجتماع ، ومدلول كتاب الكتابة . وقيل : القرآن والكتاب اسمان علمان على المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - فحيث جاء بلفظ التعريف ، فهو العلم ، وحيث جاء [ ص: 53 ] بوصف النكرة ، فهو الوصف ، وقيل : هما يجريان مجرى العباس ، وعباس فهو في الحالين اسم العلم . انتهى . وهذا خطأ ، إذ لو كان حاله نزع منه علما ما جاز أن يوصف بالنكرة . ألا ترى إلى قوله : ( وكتاب مبين ) ( وقرآن مبين ) وأنت لا تقول : مررت بعباس قائم ، تريد به الوصف ؟ وقرأ : و " كتاب مبين " ، برفعهما ، التقدير : وآيات كتاب ، فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، فأعرب بإعرابه . وهنا تقدم القرآن على الكتاب ، وفي الحجر عكسه ، ولا يظهر فرق ، وهذا كالمتعاطفين في نحو : ما جاء زيد وعمرو . فتارة يظهر ترجيح كقوله : ( ابن أبي عبلة شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم ) وتارة لا يظهر كقوله : ( وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ) .
قال : ( هدى ) إلى الجنة ( وبشرى ) بالثواب . وقال يحيـى بن سلام : هدى من الضلال ، وبشرى بالجنة ، وهدى وبشرى مقصوران ، فاحتمل أن يكونا منصوبين على الحال ، أي هادية ومبشرة . قيل : والعامل في الحال ما في تلك من معنى الإشارة ، واحتمل أن يكونا مصدرين ، واحتملا الرفع على إضمار مبتدأ . أي هي هدى وبشرى ؛ أو على البدل من آيات ؛ أو على خبر بعد خبر ، أي جمعت بين كونها آيات وهدى وبشرى . ومعنى كونها هدى للمؤمنين : زيادة هداهم . قال - تعالى - : ( الشعبي فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون ) . وقيل : هدى لجميع الخلق ، ويكون الهدى بمعنى الدلالة والإرشاد والتبيين ، لا بمعنى تحصيل الهدى الذي هو مقابل الضلال . ( وبشرى للمؤمنين ) خاصة ، وقيل : هدى للمؤمنين وبشرى للمؤمنين ، وخصهم بالذكر لانتفاعهم به .
( وهم بالآخرة هم يوقنون ) تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة ( الذين ) . ولما كان : ( يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ) مما يتجدد ولا يستغرق الأزمان ، جاءت الصلة فعلا . ولما كان الإيمان بالآخرة بما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة ، جاءت الجملة اسمية ، وأكدت المسند إليه فيها بتكراره ، فقيل : ( هم يوقنون ) وجاء خبر المبتدأ فعلا ليدل على الديمومة ، واحتمل أن تكون الجملة استئناف إخبار . قال : ويحتمل أن تتم الصلة عنده ، أي عند قوله : ( وهم ) قال : وتكون الجملة اعتراضية ، كأنه قيل : وهؤلاء الذين يؤمنون ويعملون الصالحات من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة هم الموقنون بالآخرة ، وهو الوجه ، ويدل عليه أنه عقد جملة ابتدائية وكرر فيها المبتدأ الذي هو هم ، حتى صار معناها : وما يوقن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة يحملهم على تحمل المشاق . انتهى . وقوله : وتكون الجملة اعتراضية ، هو على غير اصطلاح النحاة في الجملة الاعتراضية من كونها لا تقع إلا بين شيئين متعلق بعضهما ببعض ، كوقوعها بين صلة موصول ، وبين جزأي إسناد ، وبين شرط وجزائه ، وبين نعت ومنعوت ، وبين قسم ومقسم عليه ، وهنا ليست واقعة بين شيئين مما ذكر وقوله إلخ . حتى صار معناها فيه دسيسة الاعتزال . وقال الزمخشري ابن عطية : والزكاة هنا يحتمل أن تكون غير المفروضة ؛ لأن السورة مكية قديمة ، ويحتمل أن تكون المفروضة من غير تفسير . وقيل : الزكاة هنا بمعنى الطهارة من النقائص وملازمة مكارم الأخلاق . انتهى .
ولما ذكر - تعالى - المؤمنين الموقنين بالبعث ، ذكر المنكرين ، والإشارة إلى قريش ومن جرى مجراهم في إنكار البعث . والأعمال إما أن تكون أعمال الخير والتوحيد التي كان الواجب عليهم أن تكون أعمالهم ، فعموا عنها وترددوا وتحيروا ، وينسب هذا القول إلى ؛ أو أعمال الكفر والضلال ، فيكون تعالى قد حبب ذلك إليهم وزينه بأن خلقه في نفوسهم ، فرأوا تلك الأعمال القبيحة حسنة . وقال الحسن البصري : ( فإن قلت ) : كيف أسند تزيين أعمالهم إلى ذاته ، وأسنده إلى الشيطان في قوله : ( الزمخشري وزين لهم الشيطان أعمالهم ) ؟ ( قلت ) : بين الإسنادين فرق ، وذلك أن إسناده إلى الشيطان حقيقة ، وإسناده إلى الله - تعالى - [ ص: 54 ] مجاز ، وله طريقان في علم البيان : أحدهما : أن يكون من المجاز الذي يسمى الاستعارة . والثاني : أن يكون من المجاز المحكي .
فالطريق الأول : أنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق ، وجعلوا إنعام الله عليهم بذلك وإحسانه إليهم ذريعة إلى اتباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الترفه ونفارهم عما يلزمهم فيه التكاليف الصعبة والمشاق المتعبة ، فكأنه زين لهم بذلك أعمالهم ، وإليه إشارة الملائكة بقولهم : ( ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر ) .
والطريق الثاني : أن إمهاله الشيطان وتخليته حتى يزين لهم ملابسة ظاهرة للتزيين فأسند إليه ؛ لأنه المختار المحكي ببعض الملابسات . انتهى ، وهو تأويل على طريق الاعتزال .
( أولئك ) إشارة إلى منكري البعث ، و ( سوء العذاب ) الظاهر أنه ليس مقيدا بالدنيا ، بل لهم ذلك في الدنيا والآخرة . وقيل : المعنى في الدنيا ، وفسر بما نالهم يوم بدر من القتل والأسر والنهب . وقيل : ما ينالونه عند الموت وما بعده من عذاب القبر . وسوء العذاب : شدته وعظمه . والظاهر أن ( الأخسرون ) أفعل التفضيل ، وذلك أن الكافر خسر الدنيا والآخرة ، كما أخبر عنه - تعالى - وهو في الآخرة أكثر خسرانا ، إذ مآله إلى عقاب دائم . وأما في الدنيا ، فإذا أصابه بلاء ، فقد يزول عنه وينكشف . فكثرة الخسران وزيادته ، إنما ذلك له في الآخرة ، وقد ترتب الأكثرية ، وإن كان المسند إليه واحدا بالنسبة إلى الزمان والمكان ، أو الهيئة ، أو غير ذلك مما يقبل الزيادة . وقال الكرماني : أفعل هنا للمبالغة لا للشركة ، كأنه يقول : ليس للمؤمن خسران ألبتة حتى يشركه فيه الكافر ويزيد عليه ، وقد بينا كيفية الاشتراك بالنسبة إلى الدنيا والآخرة . وقال ابن عطية : والأخسرون جمع أخسر ، لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف ، فتقوى رتبته في الأسماء ، وفي هذا نظر . انتهى . ولا نظر في كونه يجمع جمع سلامة وجمع تكسير . إذا كان بـ " أل " ، بل لا يجوز فيه إلا ذلك ، إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فيقول : الزيدون هم الأفضلون ، والأفاضل ، والهندات هن الفضليات والفضل . وأما قوله : لا يجمع إلا أن يضاف ، فلا يتعين إذ ذاك جمعه ، بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه ، وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو .
ولما تقدم : ( تلك آيات القرآن ) خاطب نبيه بقوله : ( وإنك ) أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله - تعالى - وهو الحكيم العليم ، لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر ، وغير ذلك من تقولاتهم . وبني الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل ، وهو جبريل - عليه السلام - للدلالة عليه في قوله : ( نزل به الروح الأمين ) . ولقى يتعدى إلى واحد ، والتضعيف فيه للتعدية ، فيعدى به إلى اثنين ، وكأنه كان غائبا عنه فلقيه فتلقاه . قال ابن عطية : ومعناه يعطى ، كما قال : ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) . وقال الحسن : المعنى وإنك لتقبل القرآن . وقيل : معناه تلقن . والحكمة : العلم بالأمور العملية ، والعلم أعم منه ، لأنه يكون عمليا ونظريا ، وكمال العلم : تعلقه بكل المعلومات وبقاؤه مصونا عن كل التغيرات ، ولا يكون ذلك إلا لله - تعالى . وهذه الآية تمهيد لما يخبر به من المغيبات وبيان قصص الأمم الخالية ، مما يدل على تلقيه ذلك من جهة الله ، وإعلامه بلطيف حكمته دقيق علمه تعالى . قيل : وانتصب ( إذ ) باذكر مضمرة ، أو بـ " عليم " ؛ وليس انتصابه بـ " عليم " واضحا ، إذ يصير الوصف مقيدا بالمعمول .
وقد تقدم طرف من موسى - عليه السلام - في رحلته بأهله من مدين : في سورة طه ، وظاهر أهله جمع لقوله : ( سآتيكم ) و ( قصة تصطلون ) وروي أنه لم يكن معه غير امرأته . وقيل : كانت ولدت له ، وهو عند شعيب ، ولدا ، فكان مع أمه . فإن صح هذا النقل ، كان من باب خطاب الجمع على سبيل الإكرام والتعظيم . وكان الطريق قد اشتبه عليه ، والوقت بارد ، والسير في ليل ، فتشوقت نفسه ، إذ رأى النار إلى زوال ما لحق من إضلال الطريق وشدة البرد فقال : ( سآتيكم منها بخبر ) أي من موقدها بخبر يدل على الطريق ، [ ص: 55 ] ( أو آتيكم بشهاب قبس ) أي إن لم يكن هناك من يخبر ، فإني أستصحب ما تدفئون به منها . وهذا الترديد بـ " أو " ظاهر ، لأنه كان مطلوبه أولا أن يلقى على النار من يخبره بالطريق ، فإنه مسافر ليس بمقيم . فإن لم يكن أحد ، فهو مقيم ، فيحتاجون لدفع ضرر البرد ، وهو أن يأتيهم بما يصطلون ، فليس محتاجا للشيئين معا ، بل لأحدهما الخبر إن وجد من يخبره فيرحل ، أو الاصطلاء إن لم يجد وأقام . فمقصوده إما هداية الطريق ، وإما اقتباس النار ، وهو معنى قوله : ( لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى ) .
وجاء هنا : ( سآتيكم منها بخبر ) وهو خبر ، وفي طه : ( لعلي آتيكم منها بقبس ) وفي القصص : ( لعلي آتيكم منها بخبر ) وهو ترج ، ومعنى الترجي مخالف لمعنى الخبر . ولكن الرجاء إذا قوي ، جاز للراجي أن يخبر بذلك ، وإن كانت الخيبة يجوز أن تقع . وأتى بسين الاستقبال ، إما لأن المسافة كانت بعيدة ، وإما لأنه قد يمكن أن يبطئ لما قدر أنه قد يعرض له ما يبطئه . والشهاب : الشعلة ، والقبس : النار المقبوسة ، فعل بمعنى مفعول ، وهو القطعة من النار في عود أو غيره ، وتقدم ذلك في طه . وقرأ الكوفيون : بشهاب منونا ، فقبس بدل أو صفة ؛ لأنه بمعنى المقبوس . وقرأ باقي السبعة : بالإضافة ، وهي قراءة الحسن . قال : أضاف الشهاب إلى القبس ؛ لأنه يكون قبسا وغير قبس ، واتبع في ذلك الزمخشري أبا الحسن . قال أبو الحسن : الإضافة أجود وأكثر في القراءة ، كما تقول : دار آجر ، وسوار ذهب . والظاهر أن الضمير في ( جاءها ) عائد على النار ، وقيل : على الشجرة ، وكان قد رآها في شجرة سمر . وقيل : عليق ، وهي لا تحرقها ، كلما قرب منها بعدت . و ( نودي ) المفعول الذي لم يسم فاعله ، الظاهر أنه ضمير عائد على موسى - عليه السلام - . و ( أن ) على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرط المفسرة فيها ، ويجوز أن تكون مصدرية . أما الثنائية التي تنصب المضارع ، وبورك صلة لها ، والأصل حرف الجر ، أي بأن بورك ، وبورك خبر . وأما المخففة من الثقيلة فأصلها حرف الجر . وقال : ( فإن قلت ) : هل يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وتقديره بأنه بورك ، والضمير ضمير الشأن والقصة ؟ ( قلت ) : لا ، لأنه لا بد من قد . ( فإن قلت ) : فعلى إضمارها ؟ ( قلت ) : لا يصح ؛ لأنها علامة ولا تحذف . انتهى . ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة ، وبورك فعل دعاء ، كما تقول : بارك الله فيك . وإذا كان دعاء ، لم يجز دخول قد عليه ، فيكون كقوله تعالى : ( الزمخشري والخامسة أن غضب الله عليها ) في قراءة من جعله فعلا ماضيا ، وكقول العرب : إما أن جزاك الله خيرا ، وإما أن يغفر الله لك ، وكان بنى ذلك على أن ( بورك ) خبر لا دعاء ، فلذلك لم يجز أن تكون مخففة من الثقيلة ، وأجاز الزمخشري أن تكون ( الزجاج أن بورك ) في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو على إسقاط الخافض ، أي نودي بـ " أن " بورك ، كما تقول : نودي بالرخص . ويجوز أن تكون " أن " الثنائية ، أو المخففة من الثقيلة ، فيكون " بورك " دعاء . وقيل : المفعول الذي لم يسم فاعله هو ضمير النداء ، أي نودي هو ، أي النداء ، ثم فسر بما بعده . وبورك معناه : قدس وطهر وزيد خيره ، ويقال : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك ، وبارك لك . وقال الشاعر :
فبوركت مولودا وبوركت ناشئا وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
وقال آخر :
بورك الميت الغريب كما بورك نبع الرمان والزيتون
وقال عبد الله بن الزبير :
فبورك في بنيك وفي بنيهم إذا ذكروا ونحن لك الفداء
و ( من ) : المشهور أنها لمن يعلم ، فقال ، ابن عباس ، وابن جبير والحسن وغيرهم : أراد تعالى بمن في النار ذاته ، [ ص: 56 ] وعبر بعضهم بعبارات شنيعة مردودة بالنسبة إلى الله - تعالى . وإذا ثبت ذلك عن ومن ذكر أول على حذف ، أي بورك من قدرته وسلطانه في النار . وقيل ابن عباس لموسى - عليه السلام - : أي بورك من في المكان أو الجهة التي لاح له فيها النار . وقال : من للملائكة الموكلين بها . وقيل : من تقع هنا على ما لا يعقل . فقال السدي : أراد النور . وقيل : الشجرة التي تتقد فيها النار . وقيل : والظاهر في ( ابن عباس ومن حولها ) أنه لمن يعلم تفسير ( يا موسى ) وفسر بالملائكة ، ويدل عليه قراءة أبي ؛ فيما نقل : أبو عمرو الداني ، وابن عباس ومجاهد ، وعكرمة ؛ ومن حولها من الملائكة ، وتحمل هذه القراءة على التفسير ؛ لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه ، وفسر أيضا بموسى والملائكة - عليهم السلام - معا . وقيل : تكون لما لا يعقل ، وفسر بالأمكنة التي حول النار ؛ وجدير أن يبارك من فيها ومن حواليها إذ حدث أمر عظيم ، وهو تكليم الله لموسى - عليه السلام - ؛ وتنبيئه وبدؤه بالنداء بالبركة تبشير لموسى وتأنيس له ومقدمة لمناجاته .
والظاهر أن قوله : ( وسبحان الله رب العالمين ) داخل تحت قوله : ( نودي ) . لما نودي ببركة من ذكر ، نودي أيضا بما يدل على التنزيه والبراءة من صفات المحدثين مما عسى أن يخطر ببال ، ولا سيما إن حمل " من في النار " على تفسير أن " من " أريد به الله - تعالى - فإن ذلك دال على التحيز ، فأتى بما يقتضي التنزيه . وقال ابن عباس : هو من كلام السدي موسى ، لما سمع النداء قال : ( وسبحان الله رب العالمين ) تنزيها لله - تعالى - عن سمات المحدثين . وقال ابن شجرة : هو من كلام الله ، ومعناه : وبورك من سبح الله ، وهذا بعيد من دلالة اللفظ . وقيل : ( وسبحان الله رب العالمين ) خطاب لمحمد - عليه الصلاة والسلام - وهو اعتراض بين الكلامين ، والمقصود به التنزيه .
ولما آنسه تعالى ، ناداه وأقبل عليه فقال : ( ياموسى إنه أنا الله العزيز الحكيم ) . والظاهر أن الضمير في إنه ضمير الشأن ، وأنا الله : جملة في موضع الخبر ، والعزيز الحكيم : صفتان ، وأجاز أن يكون الضمير في إنه راجعا إلى ما دل عليه ما قبله ، يعني : إن مكلمك أنا ، والله بيان لـ " أنا " ، و " العزيز الحكيم " صفتان للبيان . انتهى . وإذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول ، فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف ، إذ قد غير الفعل عن بنائه له ، وعزم على أن لا يكون محدثا عنه . فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك ، إذ يصير مقصودا معتنى به ، وهذا النداء والإقبال والمخاطبة تمهيد لما أراد الله - تعالى - أن يظهره على يده من المعجز ، أي أنا القوي القادر على ما يبعد في الأوهام ، الفاعل ما أفعله بالحكمة . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف قوله : ( الزمخشري وألق عصاك ) ؟ ( قلت ) : على بورك ، لأن المعنى : ( نودي أن بورك من في النار ) . وقيل له : ألق عصاك ، والدليل على ذلك قوله : ( وأن ألق عصاك ) بعد قوله : ( أن يا موسى إني أنا الله ) على تكرير حرف التفسير ، كما تقول : كتبت إليه أن حج واعتمر ، وإن شئت أن حج وأن اعتمر . انتهى . وقوله : ( إنه ) معطوف على بورك مناف لتقديره . وقيل له : " ألق عصاك " ، لأن هذه جملة معطوفة على " بورك " ، وليس جزؤها الذي هو . وقيل : معطوفا على بورك ، وإنما احتيج إلى تقدير . وقيل له : ألق عصاك ، لتكون الجملة خبرية مناسبة للجملة الخبرية التي عطفت عليها ، كأنه يرى في العطف تناسب المتعاطفين ، والصحيح أنه لا يشترط ذلك ، بل قوله : ( وألق عصاك ) معطوف على قوله : ( إنه أنا الله العزيز الحكيم ) عطف جملة الأمر على جملة الخبر . وقد أجاز : جاء زيد ومن عمرو . سيبويه
( فلما رآها تهتز ) ثم محذوف تقديره : فألقاها من يده . وقرأ الحسن ، ، والزهري : جأن ، بهمزة مكان الألف ، كأنه فر من التقاء الساكنين ؛ وقد تقدم الكلام [ ص: 57 ] في نحو ذلك في قوله : ولا الضألين ، بالهمز في قراءة وعمرو بن عبيد . وجاء : ( عمرو بن عبيد فإذا هي حية ) ( فإذا هي ثعبان مبين ) وهذا إخبار من الله بانقلابها وتغيير أوصافها وأعراضها ، وليس إعداما لذاتها وخلقها لحية وثعبان ، بل ذلك من تغيير الصفات لا تغيير الذات . وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان ، فقيل : وهو صغار الحيات ، شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها ، مع عظم جثتها . ولما رأى موسى هذا الأمر الهائل ( ولى مدبرا ولم يعقب ) . قال مجاهد : ولم يرجع . وقال : لم يمكث . وقال السدي قتادة : ولم يلتفت ، يقال : عقب الرجل : توجه إلى شيء كان ولى عنه ، كأنه انصرف على عقبيه ، ومنه : عقب المقاتل ، إذا كر بعد الفرار . قال الشاعر :
فأعقبوا إذ قيل هل من معقب ولا نزلوا يوم الكريهة منزلا
ولحقه ما لحق طبع البشرية إذا رأى الإنسان أمرا هائلا جدا ، وهو رؤية انقلاب العصا حية تسعى ، ولم يتقدمه في ذلك تطمين إليه عند رؤيتها . قال : وإنما رغب لظنه أن ذلك لأمر أريد به ، ويدل عليه : ( الزمخشري إني لا يخاف لدي المرسلون ) . انتهى . وقال ابن عطية : وناداه الله - تعالى - مؤنسا ومقويا على الأمر : ( يا موسى لا تخف ) فإن رسلي الذين اصطفيتهم للنبوة لا يخافون غيري . فأخذ موسى - عليه السلام - الحية ، فرجعت عصا ، ثم صارت له عادة . انتهى . وقيل : المعنى لا يخاف المرسلون في الموضع الذي يوحى إليه فيه ، وهم أخوف الناس من الله . وقيل : إذا أمرتهم بإظهار معجز ، فينبغي أن لا يخافوا فيما يتعلق بإظهار ذلك ، فالمرسل يخاف الله لا محالة . انتهى .
والأظهر أن قوله : ( إلا من ظلم ) استثناء منقطع ، والمعنى : لكن من ظلم غيرهم ، قاله الفراء وجماعة ، إذ الأنبياء معصومون من وقوع الظلم الواقع من غيرهم . وعن الفراء : إنه استثناء متصل من جمل محذوفة ، والتقدير : وإنما يخاف غيرهم إلا من ظلم . ورده النحاس وقال : الاستثناء من محذوف محال ، لو جاز هذا لجاز أن لا يضرب القوم إلا زيدا ، بمعنى : وإنما أضرب غيرهم إلا زيدا ، وهذا ضد البيان والمجيء بما لا يعرف معناه . انتهى . وقالت فرقة : إلا بمعنى الواو ، والتقدير : ولا من ظلم ، وهذا ليس بشيء ؛ لأن معنى إلا مباين لمعنى الواو مباينة كثيرة ، إذ الواو للإدخال ، وإلا للإخراج ، فلا يمكن وقوع أحدهما موقع الآخر . وروي عن الحسن ، ومقاتل ، ، وابن جريج والضحاك ، ما يقتضي أنه استثناء متصل .
قال ابن عطية : وأجمع العلماء على أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي هي رذائل ، واختلف فيما عداها ، فعسى أن يشير الحسن إلى ما عدا ذلك . انتهى . وقال وابن جريج : وإلا بمعنى لكن ، لأنه لما أطلق نفي الخوف عن المرسل كان ذلك مظنة الضر والشبهة فاستدرك ذلك ، والمعنى : ولكن من ظلم منهم ، أي فرطت منهم صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء ، كالذي فرط من الزمخشري آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى ، بوكزة القبطي . ويوشك أن يقصد بهذا التعريض ما وجد من موسى ، وهو من التعريضات التي يلطف مأخذها ، وسماه ظلما ؛ كما قال موسى : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) . انتهى . وقرأ أبو جعفر ، : ألا من ظلم ، بفتح الهمزة وتخفيف اللام ، حرف استفتاح . ومن : شرطية . وزيد بن أسلم والحسن : حسن التوبة ، والسوء : الظلم الذي ارتكبه . وقرأ الجمهور : حسنا ، بضم الحاء وإسكان السين منونا . وقرأ محمد بن عيسى الأصبهاني : كذلك ، إلا أنه لم ينون ، جعله فعلى ، فامتنع الصرف ؛ وابن مقسم : بضم الحاء والسين منونا . ومجاهد ، وأبو حيوة ، ، وابن أبي ليلى ، والأعمش وأبو عمرو في رواية الجعفي ، وأبو زيد ، وعصمة ، وعبد الوارث ، وهارون ، وعياش : بفتحهما منونا .
( وأدخل ) أمر بما يترتب عليه من ظهور المعجز العظيم ، لما أظهر له معجزا في غيره ، وهو العصا ، أظهر له معجزا في نفسه ، وهو تلألؤ يده كأنها قطعة [ ص: 58 ] نور ، إذا فعل ما أمر به . وجواب الأمر الظاهر أنه " تخرج " ؛ لأن خروجها مترتب على إدخالها . وقيل : في الكلام حذف تقديره : وأدخل يدك في جيبك تدخل ، وأخرجها تخرج ، فحذف من الأول ما أثبت مقابله في الثاني ، ومن الثاني ما أثبت مقابله في الأول . قال قتادة : ( في جيبك ) قميصك ، كانت له مدرعة من صوف لا كمين لها . وقال ، ابن عباس ومجاهد : كان كمها إلى بعض يده . وقال : في جيبك : أي تحت إبطك . والظاهر أن قوله : ( السدي في تسع آيات إلى فرعون ) متعلق بمحذوف تقديره : اذهب بهاتين الآيتين : ( في تسع آيات إلى فرعون ) ويدل عليه قوله بعد : ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة ) وهذا الحذف مثل قوله :
أتوا ناري فقلت منون أنتم فقالوا الجن قلت عموا ظلاما
وقلت إلى الطعام فقال منهم فريق يحسد الإنس الطعاما
التقدير : هلموا إلى الطعام . وقال : ويجوز أن يكون المعنى : وألق عصاك ، وأدخل يدك ، في ( الزمخشري تسع آيات ) أي في جملة تسع آيات . ولقائل أن يقول : كانت الآيات إحدى عشرة ، ثنتان منها : اليد والعصا ، والتسع : الفلق ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمسة ، والجدب في بواديهم ، والنقصان من مزارعهم . انتهى . فعلى الأول يكون العصا واليد داخلتين في التسع ، وعلى الثاني تكون في بمعنى مع ، أي مع تسع آيات . وقال ابن عطية : ( في تسع آيات ) متصل بقوله : ( ألق ، وأدخل ) ، وفيه اقتضاب وحذف تقديره : تمهد ذلك وتيسر لك في جملة تسع آيات وهي : العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والطمس ، والحجر ؛ وفي هذين الأخيرين اختلاف ، والمعنى : يجيء بهن إلى فرعون وقومه . وقال : في تسع آيات ، أي من تسع آيات ، كما تقول : خذ ( لي ) عشرا من الإبل فيها فحلان ، أي منها إلى فرعون ، أي مرسلا إلى فرعون . انتهى . وانتصب ( مبصرة ) على الحال ، أي بينة واضحة ، ونسب الإبصار إليها على سبيل المجاز ، لما كان يبصر بها جعلت مبصرة ، أو لما كان معها الإبصار والوضوح . وقيل : لجعلهم بصراء ، من قولك : أبصرته المتعدية بهمزة النقل من بصر . وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، كماء دافق . وقرأ الزجاج قتادة ، وعلي بن الحسين : مبصرة ، بفتح الميم والصاد ، وهو مصدر ، كما تقول : الولد مجبنة ، وأقيم مقام الاسم ، وانتصب أيضا على الحال ، وكثر هذا الوزن في صفات الأماكن نحو : أرض مسبعة ، ومكان مضبة . قال : أي مكانا يكثر فيه التبصر . انتهى . والأبلغ في : ( الزمخشري واستيقنتها ) أن تكون الواو واو الحال ، أي كفروا بها وأنكروها في الظاهر ، وقد استيقنت أنفسهم في الباطن أنها آيات من عند الله ، وكابروا وسموها سحرا . وقال تعالى ، حكاية عن موسى في محاورته لفرعون : ( قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر ) . ( ظلما ) مجاوزة الحد ( وعلوا ) ارتفاعا وتكبرا عن الإيمان ، وانتصبا على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي ظالمين عالين ؛ أو مفعولان من أجلهما ، أي لظلمهم وعلوهم ، أي الحامل لهم على الإنكار والجحود ، مع استيقان أنها آيات من عند الله هو الظلم والعلو . واستفعل هنا بمعنى تفعل نحو : استكبر في معنى تكبر . وقرأ عبد الله ، وابن وثاب ، ، والأعمش وطلحة ، ، " وأبان بن تغلب وعليا " : بقلب الواو ياء ، وكسر العين واللام ، وأصله فعول ، لكنهم كسروا العين إتباعا ؛ وروي ضمها عن ابن وثاب والأعمش وطلحة ، وتقدم الخلاف في كفر العناد ، هل يجوز أن يقع أم لا ؟ والعاقبة : ما آل إليه قوم فرعون من سوء المنقلب ، وما أعد لهم في الآخرة أشد ، وفي هذا تمثيل لكفار قريش ، إذ كانوا مفسدين مستعلين ، وتحذيرهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن كان قبلهم .